Ad

إن سياسة النفي والحصار والتجويع لأهالي غزة من شأنه أن يعطي مردوداً عكسياً ليس في الضفة الغربية فحسب، بل ربما في البلاد العربية والإسلامية، وأيضاً قد تشمل الحركات الإنسانية المنتشرة في العالم.

مؤتمر أنابوليس حُكِمَ عليه بالفشل لأسباب جوهرية عديدة لعل أهمها أن السلام لا يصنعه إلا الأقوياء، والثالوث الذي دعا ورعى هذا المؤتمر يعاني الضعف السياسي إلى درجة الإنهاك، فالرئيس الأميركي جورج بوش يقف على ما قبل البوابة الخارجية للبيت الأبيض، ولا يستطيع أن يمارس أي نوع من أنواع الضغط لا على إسرائيل ولا على الفلسطينيين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت متعب داخلياً هو الآخر نتيجة حربه ضد لبنان في 2006، وقد فقد نحو 70 في المئة من ثقة الإسرائيليين، أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس فلا تتعدى سلطته حدود الضفة الغربية المحتلة، والسؤال اليوم: هل تتأثر علاقة الفلسطينيين بالأميركيين نتيجة هذا الفشل، وإلى أي مدى؟

في محاولة للرد على هذا السؤال من المفيد العودة إلى كيفية نشوء وتطور هذه العلاقة:

اختلف تقييم الإدارة الأميركية الرسمي عن مراكز الدراسات والإعلام في واشنطن حول معالجة موضوع سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة، ففي الوقت الذي اعتبر فيه البيت الأبيض والخارجية الأميركية أن رد فعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس جاء في وقته ولو متأخراً فإنه بالتالي بداية النهاية لـ«حماس» في الأرض الفلسطينية المحتلة كلها، كذلك فإن «الحرب المكشوفة» التي أعلنها عباس تشكل نقلة نوعية، وبداية مرحلة جديدة ستؤدي في النتيجة إلى تحقيق الحلم الأميركي بإنهاء الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، مما يعطي زخماً بجهود إعادة الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط في إطار المشروع الأميركي الذي بات معروفاً.

أما مراكز الدراسات المختلفة في واشنطن وفي نيويورك فقد «وضعت يدها على قلبها»، بينما اعترفت بأن انقلاب «حماس» هو في حد ذاته مرحلة جديدة، لها قواعد وأسلوب جديدان، شككت بصورة صريحة في إمكان نجاح عباس في السيطرة على الضفة الغربية، في الوقت الذي سيطرت فيه «حماس» على غزة، واتفقت على القول إن من شأن فشل عباس –في حال حدوثه– أن «يقلب الطاولة» ليس على المشروع الأميركي لفلسطين المحتلة، بل على مشاريعها المنفذة حالياً والتي هي قيد التنفيذ، في الشرق الأوسط، وربما في الجوار أيضاً.

مسؤولو البيت الأبيض والسياسة الخارجية رأوا في خطوة «حماس» ورد فعل عباس تحقيقاً لحلم طالما دفعوا عباس إلى تحقيقه في السنوات الأخيرة. لكن «أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً»، كما قال بعضهم، في المقابل فإن مراكز الدراسات وكبريات الصحف الأميركية حذّرت من عدم الإغراق بالتفاؤل وطالبت بدراسة هذه المرحلة الجديدة في ضوء الفوضى الحاصلة في الشرق الأوسط. «نيويورك تايمز» في مقال لها في «17-6-2007» قالت: «... إن سيطرة «حماس» على غزة زرع الخوف في نفوس الزعماء العرب (الموالين لأميركا). فالعملية جرت بديناميكية سريعة وحاسمة شبيهة بتلك التي وضعت المنطقة العربية في مهب الرياح العاتية». وأضافت الجريدة النيويوركية: «إن التحالف الغربي في المنطقة خسر معركة والتحالف السوري-الإيراني ربح أرضية جديدة لمعاركه المستقبلية... وهذا يعني ازدياد الخطر على سياسة «الستاتيكو» التي تتمسك بها كل من القاهرة وعمان والرياض في مقاومة صعود نجم الإسلام السياسي، كذلك يعطي إيران موطئ قدم جديد على حدودها مع الدول العربية».

حاولت الحكومات الغربية المؤيدة لعباس زيادة وتيرة تأييدها السريع له سياسياً وبوعود المساعدات المالية، لكنها، في الوقت نفسه، أبدت خشيتها من أن التقاعس عن تحويل التصريحات والوعود إلى حقائق عملية سوف يؤدي إلى عكس المطلوب بحيث تنتشر شعبية ونفوذ «حماس» من غزة إلى الضفة الغربية، وبذلك تقع فلسطين المحتلة بضفتيها تحت حكم راديكالي إسلامي يمكن أن يمتد –كالنار في الهشيم– إلى باقي الأنظمة العربية المعتدلة. والنظام الأول الذي سيواجه هذه المشكلة هو نظام المملكة الأردنية الهاشمية لأن أكثر من نصف سكانه من الفلسطينيين، ومعظم هؤلاء من المتدينين في أحسن الأحوال، ومن الراديكاليين الأصوليين في أسوئها. لذلك فإن الخطوة الأولى والسريعة التي يجب أن توقف تمدد «حماس» هي فرض الحصار بمختلف أشكاله على غزة. تماماً كما يفعل الإطفائي الذكي عندما يُدعى إلى إطفاء حريق ما، فإنه يحاصر منطقة الحريق لمنع امتداده وبعد ذلك يبدأ عملية الإطفاء.

غير أن ذلك قد لا يؤدي إلى إطفاء هذا الحريق الكبير انطلاقاً من حقيقة اليأس الشامل التي يعيشها الشعب الفلسطيني أمنياً واقتصادياً ومعيشياً ووطنياً. يضاف إلى ذلك أن «حماس» هي فكرة بنيت في الأساس وانتشرت على مبدأ اليأس لا الدين. والفكرة لا يمكن قتلها إلا بفكرة أخرى أفضل وأحسن منها.

هذه الفكرة المقاومة للأصولية لم تولد بعد في جعبة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والشرقيين على السواء.

من هنا يمكن القول إن سياسة النفي والحصار والتجويع لأهالي غزة من شأنه أن يعطي مردوداً عكسياً ليس في الضفة الغربية فحسب، بل ربما في البلاد العربية والإسلامية، وأيضاً قد تشمل الحركات الإنسانية المنتشرة في العالم. وهكذا فإن استخدام هذا السلاح الذي اقترحته واشنطن ونفذه الرئيس محمود عباس –ربما– من شأنه أن يصبح سلاحاً بيد «حماس» في المدى القريب. وهذا ما يخشاه جميع «المعتدلين».

* كاتب لبناني