العدد ألف من مجلة العربي
كثيراً ما أسأل نفسي حين أصل إلى الصفحة الأخيرة من كل عدد أقرأه من مجلة العربي: هل يمتد بي العمر حتى أرى العدد رقم «ألف»؟ وفي زحمة التساؤل تملأ الدموع عيني، فتبتلعها ابتسامة خاطفة لشفتين تقولان في اطمئنان: ربما أكون حينئذ شيخاً يتوكأ على عصاه وعقله الذي شاركت «العربي» في صنعه.
كانت شمس العصر الكسيرة تترنّح على اللافتة الزجاجية للمقهى المواجه لجامعة القاهرة، فتسكب نضارتها على غلاف مجلة ملون تطوّقه يدان سمراوان، صاحبهما يدسّ رأسه بين دفتيها وشفتاه مضمومتان في حزم، وعيناه تأكلان السطور. مِلت برأسي لأرى ما الذي يجذب صاحبنا كل هذا الانجذاب الذي كاد أن يفصله عن كل ما يحيط به، فوجدت على الغلاف كلمة «العربي» عريضة بارزة.كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها «مجلة العربي»، وكنت أنهي الأسبوع الأول لحياتي الجامعية، ومن يومها صارت مجلتي. ضممتها إلى «الهلال»، وعرفت بعدهما مجلتي «الدوحة» و«الأمة»، فشغفت بها جميعا، إلى درجة أن مطبوعاتها الشهرية لم تكن تكفيني، فكنت أذهب إلى «سور الأزبكية» وسط القاهرة حيث بائعي الكتب القديمة، لأتزود بالأعداد القديمة، فغُصْت مع «العربي» إلى السبعينيات والستينيات، وانتقلت من أيام محمد الرميحي إلى زمن أحمد زكي وأحمد بهاء الدين. كانت هذه المجلات بالنسبة لي الزهور الناضرة التي تدلني على البساتين العامرة بكل ما لذّ وطاب من المعرفة، فما إن أطالع فكرة مختصرة، أو أستدلّ على كتاب معروض، أو رواية مرت معانيها المجملة من بين أيدي ناقد، أو ترجمة لشخصية ثرية في دنيا العلم والفكر، حتى أجري إلى مكتبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي أنتمي إليها والمكتبة الأم للجامعة وسور الأزبكية، لأسال عن هذا المؤلف وذاك الكتاب، فأعود أكثر فهماً ودراية وانشغالاً.ولأن هذه المجلات كانت شاملة، وفيها من قطوف الآداب وألوان العلوم ما استدار واكتمل على أحدث هيئاته وأفضلها في اللحظة التي تدفع المطابع بها إلى أسواق القراءة والمطالعة، فإنها قادتني إلى الاهتمام بأحدث ما تنتجه قرائح البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعلّمتني أن أحقق ما طلبه نجيب محفوظ من تلاميذه أن يقرأوا بلا حدود وفي أي اتجاه، وبذلك ساهمت «العربي» وأخواتها في تكويني، وإليها أرد دوماً الفضل في الدخول إلى دنيا الفكر الرحيبة الرهيبة، التي أحتاج إلى قدر عمري مئة مرة لأقف على بعضها وقوفاً واثقاً ثابتاً. وأحيانا إذا سبح بي الشرود فنكصت إلى اللحظات الحميمة في سنوات عمري الذي شارف على الأربعين، أجد لمجلة «العربي» مكانها، فكثيراً ما كانت صديقتي في ساعات الليل الهادئة، تحادثني في قرية غافية هجع أهلها الطيبون إلى مخادعهم البسيطة بعيد العشاء، وتركوني لمصباح الكيروسين الواهن ولمجلتي الزاهية. وإذا قلّبت بعض صفحات مؤلفاتي التي اقتربت من الخمسة والعشرين لأقف على البذور الأولى العفيّة التي نثرتها في كل هذه السطور المتلاحقة، فأجد «العربي» حاضرة، كممر سلكته في يسر لأصل إلى كل هذا الوادي الفسيح، الرافل بأشجار المعرفة الباسقة. ولما رزقني الله بذرية، أدعوه أن تكون صالحة حتى النهاية، ألحقتهم بمدرسة «العربي الصغير»، يردون إليها مطلع كل شهر، وينتظرون ورودها بشوق ولهفة لا تخفى على أي أحد حتى لو كان لا يمتلك عيناً بصيرة ولا عقلاً فهيماً. نسخة واحدة يتخطفونها، ولولا رغبتي في أن أعلمهم أن يتقاسموا الخبز والسرير والكتب والأحلام لاشتريت نسختين أو أكثر، وأقول باسماً وأنا أرى الواحد منهم يلتهم سطور مجلته الصغيرة: غداً سيصير زبوناً لمجلة رافقت أباه عقوداً أطول من عمره، ويعتزم أن ترافقه حتى الغمضة الأخيرة. تحتفل العربي بمرور خمسين سنة على انطلاقها فستعيد فتاة غلافها وهي تمر بسلام على درب شيخوختها من دون أن تفقد براءة الطلّة ولا ألق العينين وسماحة الملامح، أما أنا فكلّما اشتريت عدداً جديداً من «العربي» استعادت ذاكرتي الشاب الأسمر الذي رأيت المجلة في يده للمرة الأولى في حياتي. أستحضر شفتيه المزمومتين في حزم يليق بقراءة موضوع مهم، وأستعير عزلته عن الشارع الصاخب وصوت النادل وقرقعة الزهر وقرقرة النراجيل، فأنزوي في ركن حجرتي أو على أطرف حقلي أو في المقعد الأخير لـ«الأتوبيس» المزدحم أو في آخر خيمة منصوبة على شاطئ الإسكندرية لأختلي إلى «العربي». وكثيراً ما أسأل نفسي حين أصل إلى الصفحة الأخيرة من كل عدد أقرأه من مجلة العربي: هل يمتد بي العمر حتى أرى العدد رقم «ألف»، وفي زحمة التساؤل تملأ الدموع عيني، فتبتلعها ابتسامة خاطفة لشفتين تقولان في اطمئنان: ربما أكون حينئذ شيخاً يتوكأ على عصاه وعقله الذي شاركت «العربي» في صنعه، أو خبراً وأثراً قد يقول بعض الناس: لقد مرّ من هنا يوماً، وفي يده مجلة ذات غلاف مصقول لامع.* كاتب وباحث مصري