رمضان في السنة النبوية 4
نظراً إلى أن الصوم إحساس بالآخرين، وتعاطف مع الفقراء والمحتاجين، وإحساس جماعي بترابط الأمة فإنه يجوز قضاء الصوم بين الأولياء كما قال الرسول «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». وكما يكون الميراث بين الأقرباء يكون الصيام بينهم أيضا.
ليس الصيام عذاباً للنفس، بل ترويض لها، وليس غايةً في ذاته، بل وسيلة لتقوية الإرادة وشحذ الهمة، والسيطرة على الانفعالات وأهواء البشر، ويتجلى ذلك في تعجيل الفطور، وأخذ السحور، وعدم مواصلة الصيام ليلاً ونهاراً. تكفي ثلاثة أيام في الشهر أو صوم داود، نصف الدهر، إفطار يوم وصيام يوم، فالصيام فضيلة يعقبه فرح الإفطار. ومكافأة الإرادة خير من تعذيبها، وتراكم فضيلة فوق فضيلة، فضيلة الصلاة بعد فضيلة الصوم بلا انقطاع. «لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر». والسحور أيضا فضيلة، واستعداد للصيام التالي «تسحّروا فإن في السحور بركة». وقيام الليل ليس فقط للعبادة والتهجد وذكر الله بل أيضا للطعام والشراب استعداداً لممارسة عملية ضبط الإرادة وترويض النفس في اليوم التالي. وتتجلى واقعية الإسلام في تحريم مواصلة الليل بالنهار صياماً من دون إفطار، وان أقصى وقت للمواصلة هو السحر «لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر». وإذا كان الرسول قد واصل فإن ذلك حكم خاص به نظراً إلى العلاقة الخاصة بينه وبين الله.فالوحي طعام وشراب روحيان. «لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى»، وفي رواية أخرى «إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساق يسقيني». وتزيد رواية ثالثة «فاكلَفوا من العمل ما تطيقون». وهناك حق الزوج في المعاشرة، وحق الضيف في إكرامه مما يمنع مواصلة الليل بالنهار. فحين بلغ الرسول أن عبد الله بن عمرو بن العاص يصوم النهار ويقوم الليل قال «لا تفعل. صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً. وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله». ومهما بلغ الإنسان من قوة وقدرة على الصيام فوق ثلاثة أيام في الشهر فإن أقصى ما يستطيع صومه صوم داود، صوم يوم وإفطار يوم. «فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه». وهو يعادل صوم ضعف الدهر. فإن استطاع القادر أن يصوم يوماً ويفطر يومين، فلا صوم أكثر من صوم النبي داود. ونظراً إلى أن الصوم إحساس بالآخرين، وتعاطف مع الفقراء والمحتاجين، وإحساس جماعي بترابط الأمة فإنه يجوز قضاء الصوم بين الأولياء كما قال الرسول «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». وكما يكون الميراث بين الأقرباء يكون الصيام بينهم أيضا، أخذاً بأخذ، وعطاء بعطاء. لذلك يجوز قضاء الصوم عن الأم المتوفاة بصوم ابنها قياساً على الدين. فعليه الوفاء بالدين، ودين الله أحق بالقضاء «فدين الله أحق أن يُقضى». وما يجوز من الابن للأم يجوز للأخت ومن البنت للأم، وواضح هنا أن الولاية من الابن والابنة للأم بياناً لدور الأم في الولادة والتربية وضرورة قضاء دينها عليها من الأبناء والبنات. صحيح أن المسؤولية فردية، وأن الجزاء طبقاً للأعمال. ولكن في هذه الحالة يتواصل عمل الأحياء في عمل الأموات نظراً إلى القرابة ولصلة الرحم، مثل الترحم على أموات المسلمين والدعوة لهم بالمغفرة وحسن العاقبة.كانت هذه أهم موضوعات الصيام في السنة النبوية: عبادة ومغفرة، وجزاؤه الجنة وفتح أبواب السماء لدعاء الصائم، ويرتبط بالاعتكاف، في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، ليلة نزول القرآن، كما ارتبط الصيام بتكفير الذنوب والتعويض عن الكبائر تطهيراً للنفس، والإمساك الشامل عن الرذائل والسيطرة على النفس وضبط الأهواء وحسن الأخلاق، وهو وسيلة لمعرفة الأوقات والإحساس بالزمان في الشهر واليوم والليل وساعة الإفطار والسحور، وهو واجب ونفل، تكليف واختيار، لا يشق على النفس في حالة النسيان، وليس تكليفاً بما لا يطاق بدليل تعجيل الفطور وتفضيل السحور، وعدم مواصلة الليل بالنهار أو صوم الدهر كله، وأخيراً الصوم فضله على من لا فضل له أو من نقصه الفضل بين الأحياء.الصوم إذاً ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب بل هو تكوين نفسي وذهني، وبناء اجتماعي، وعلاقة بالعالم، وصلة بالله، هو جزء من كل، وعبادة ومعاملة، يكشف عن جوهر الإسلام الذي يمثل الديانات السابقة وأكملها وأطهرها مما علق بها من صورية وشكلية.* كاتب ومفكر مصري