Ad

السبب الذي دعاني إلى الإحجام عن تلخيص مسار الراوية أو عرض محاورها، أو نقل بعض تفاصيلها المؤثّرة هو الحرص على عدم إفساد لذّة قراءتها بالنسبة للقارئ العربي... وهو حرص يصاحبه الأمل بأن تكون قد ترجمت إلى اللغة العربية.

على أحد رفوف قسم الرّوايات والقصص في إحدى المكتبات اللندنية الكبرى، لفت انتباهي كتاب متوسط الحجم طُويَ غلافه من منتصفه بورقة حمراء عريضة كادت تأكل العنوان كلّه وصورة الغلاف.

التقطت الكتاب، فوجدت أن الورقة تتضمن سطوراً بقلم الروائية التشيليّة (إيزابيل أللّيندي) تقول فيها: «رائعة... إنها واحدة من تلك القصص التي لا تنُسى، والتي تبقى منطبعة في النفس على مدى سنوات.

كل الموضوعات العظيمة في الأدب وفي الحياة قد شكّلت نسيج هذه الرواية غير العادية: الحب، الشرف، الذنب، الخوف، الفداء...

إنها رواية قويّة جداً، إلى درجة أنّ كل شيء قرأتهُ، بعد فترة طويلة من قراءتها، كان يبدو لي باهت التأثير»!

تساءلت مأخوذاً: ما هذه الرّواية التي اخذت بمجامع قلب أللّيندي؟ ومَن هذا الروائي الذي استطاع أن يهزّ فروع هذه الشجرة الشاهقة الراسخة؟ وأية حرارة إبداعية هذه التي جعلت كلّ ماعداها يبدو بارداً بالنسبة لهذه المبدعة الكبيرة؟!

الرّواية هي «قائد الطيّارة الورقيّة The Kite Runner». أما المؤلف فهو «خالد حسيني».

من خالد حسيني؟!

هو طبيب أفغاني شاب يعيش في أميركا، والرواية هي عمله الإبداعي الأول، وقد رسم فيها، بقدرة عالية، صور مأساة الأفغان، على مرّ العهود الحديثة، ابتداءً من أواخر العهد الملكي، مروراً بالحكم الشيوعي والاحتلال الروسي ودويلات بارونات الجهاد، وانتهاء بالهجوم الأميركي وسقوط إمارة طالبان... وكل ذلك من خلال حكاية صبيين ينتميان إلى قطبين اجتماعيين متنافرين (البشتون والهزارة) ويعيشان علاقة ملتبسة تفضي إلى أحداث مستقبلية أكثر التباساً.

الطريقة المتميّزة في القص لدى خالد حسيني، تجعل قارئة، عند نهاية كل فصل، يقفز بشوق ولهفة إلى الفصل الذي يليه، لأنه يبرع في إقفال الفصول بجمل مفاجئة وصادمة ومستثيرة للرّغبة في المتابعة، شأن مؤلفي القصص البوليسية المُحكَمة.

ولأنه اختار أن يكون البطل هو الراوي، فقد استطاع بحذق ومهارة، أن يوهم القارئ بأنه هو البطل، وأن الرواية هي سيرته الشخصية، لكنه أكد في إحدى المقابلات التي أجريت معه أن القصة بشخوصها وأحداثها هي من نسج خياله، برغم كونها تستمد حبكتها مع وقائع معروفة.

وقال، في هذا الشأن، إنه كان قد استطاع فعلاً أن يوهم القارئ بأن الشخصيات حيّة وملموسة إلى هذا الحد، وأنّ الأحداث كلّها حقيقية، فهذا يعني أنه «كذاب كبير»... أي أنه بعبارة أخرى «راوٍ جيّد».

والحق أنه راوٍ جيّد بالفعل، بل هو راوٍ من طراز فريد. وحتّى لو لم يكتب بعد هذه الرواية شيئاً آخر، فإنها وحدها تؤهّله لحجز مكانه اللّائق في صف أفضل الروائيين في العالم، وهي في الوقت نفسه تكفينا دليلاً على أنّ نواحينا لا تفتقر إلى المواهب الجبّارة لكنّها تفتقر إلى البيئة الثقافية المتحرّرة من «شموليات» أعداء الله وأعداء الإنسان، سواء أولئك الّذين يدّعون أنهم يحكمون بتفويض من الله، أو أولئك الّذين يزعمون أنّهم يحكمون بتفويض من الإنسان!.

المكان في الرواية عبارة عن مثلّث: قاعدته أفغانستان وضلعاه باكستان وأميركا، وحركة الأحداث والشخصيات تتواصل في فضائه متنافرة بين هذه المواقع، لكنّها تتقارب في نموّها الحثيث، لتلتقي برغم تباعد الفصول، الأمر الذي ينمّ عن خبرة الرّاوي وكفاءته الفنية.

ومن جميل ما نلاحظه فيها أن «حسيني» الذي كتب الرواية بالإنكليزية كواحد من أهلها، لم ينسَ هويّته كأفغاني مسلم، فضمّن كثيراً من سرده وحواراته عبارات هي من صميم بيئته، وهي في معظمها عبارات عربيّة خالصة، ترجمها للآخرين في سياق عفوي لا يؤثّر في مجرى السرد، ولعله وجد في استخدامها (كما هي بلسانه) حاجة لتحقيق التوهّج والحرارة المعبرين عن روح وهويّة الرّواية، مما لا تستطيع التعبير عنه أية لغة أخرى.

خلال قراءتي لهذه الرّواية الممتعة جدّاً، شعرت بأنني أنتقل بين مواقع على الأرض لا على الورق، وبين بشر حقيقيين لا مجرد أشخاص مرسومين بالكلمات.

وفي خضم رحلتي هذه كان المؤلف يقودني، صعوداً وهبوطاً، عبر مختلف الانفعالات الإنسانية، فينجح، بفعل حرارة صدقه الفنّي، في استثارة غضبي هنا، أو انتزاع ضحكتي هنالك، أو إشعال كراهيتي هناك.

ولا أتردّد عن الاعتراف بأنه في واحدة من ذُرا تلك الحوادث المحوريّة في قصّته، قد أسلمني إلى البكاء!

كلا... لا يذهبنّ الظنّ بعيداً. ليست الرواية فيلماً هندياً، فلو أنها كانت كذلك لوفّرت على بطلها الكثير من العناء، ولأسعفته بحلول جاهزة للعقد المستحكمة التي واجهها، فتمنّى -وتمنينا معه- لو أنه كان شخصية في واحد من تلك الأفلام الهندية التي طالما شاهدها، والتي يعرف على وجه الدقّة بأي حركة أو أي سلوك أو قول سيمكن للبطل فيها أن يخرج من محنته، لكنّه، إذ تمرّ في ذهنه مثل هذه الخواطر، يتأسّف لأن ما يجري في الواقع هو شيء مختلف تماماً عما يجري في تلك الأفلام.

ولمناسبة ذكر الأفلام، أودّ أن أجتزئ هنا لمحة من الرواية، يدخل فيها البطل محل أشرطة فيديو في أميركا، فيسأله أحد الزبائن عن رأيه بفيلم «العظماء السبعة» الذي ينوي استعارته، ولأنّ البطل كان قد شاهد هذا الفيلم مرّات عديدة حين كان في أفغانستان، فقد أسهب في إطرائه إلى حد أنّه روى للزبون قصّته كاملة، مما جعل الزبون يتميّز غيظاً بدلاً من أن يبدي امتنانه، وذلك لأنّ البطل أفسد عليه لذّة مشاهدة الفيلم!

أردت، باجتزائي هذه اللمحة، أن أبيّن السبب الذي دعاني إلى الإحجام عن تلخيص مسار الراوية أو عرض محاورها، أو نقل بعض تفاصيلها المؤثّرة. إنه الحرص على عدم إفساد لذّة قراءتها بالنسبة للقارئ العربي... وهو حرص يصاحبه الأمل بأن تكون قد ترجمت إلى اللغة العربية، ويسبقه الألم لصدور طبعتين إنكليزيتين وطبعتين أميركيتين منها حتّى الآن، إضافة إلى صدور ترجماتها للإسبانية والألمانية والهولندية والسويدية والدانمركية، وغيرها من اللغات... واهتمام هوليوود بإعدادها للسينما، فيما لم أسمع لها أي صدى في جنبات عالمنا الثقافي حتى هذه الساعة!

أتمنى أن يكون صوتها وصداه قد انطلقا عندنا، وأنّ صممي أنا هو الذي حال دون سماعهما.

أتمنى ذلك من كلّ قلبي.

* شاعر عراقي