إن خروج الجمهوريين من البيت الأبيض ودخول الديموقراطيين إليه يمنح الفرصة الذهبية للتلاقي والمساومة. ومن الآن إلى أن يقرر الناخب الأميركي مصير هوية رئيسه الجديد، فإن المقاومة البعثية ستزيد من عملياتها داخل العراق، بغية الوصول إلى «طاولة المساومة» بورقة قوية.محطة جديدة من المفيد التوقف عندها وتحليل أبعادها لفهم ما يجري اليوم في العراق بين المقاومة البعثية وقوات الاحتلال الأميركية. هذه المحطة تتعلق بالمفاوضات السرية الجارية بين الفريقين عبر عدة خطوط لعل أبرزها خط ما اتفق على تسميته بـ«الصحوة»، والدور الذي تؤديه في محاولة التقريب بين القوات الأميركية ورجال النظام السابق، وبالتحديد مجموعة عزت الدوري (أبو أحمد) والتي يبدو أنها الفئة الوحيدة في مجموعات المقاومة التي «صحا» الأميركيون ليس على وجودها فحسب، بل على فعاليتها على الأرض العراقية أيضاً.
والمعروف أن عزت الدوري أُعِيدَ تثبيت مركزه كأمين عام لحزب البعث في الفترة الأخيرة، والمحاولات التي جرت لشق صفوف ما تبقى من الحزبين، داخل العراق وخارجه، باءت بالفشل. وهذا المنصب كان يشغله الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكان عزت الدوري نائباً له.
القاسم المشترك الذي يجمع بين هذا الفريق والقوات الأميركية هو أن الطرفين يتشاركان، بشكل أو بآخر، بقتال عدو استراتيجي واحد هو التغلغل الإيراني في السلطة، وفي الجسم الديمغرافي العراقي. أما «القاعدة» وما يتفرع عنها من جماعات أصولية تدين بالولاء، عقائدياً ومالياً، لأسامة بن لادن، فإن الطرفين الأميركي والبعثي ينظران إليها نظرة تكتيكية ثانوية، باعتبار أنها أصيبت بالوهن، ولم تعد تشكل خطراً استراتيجياً، كما كانت في بداية الغزو الأميركي للعراق في 2003. وقد ذكر لي أحد قياديي المقاومة البعثية خلال مروره ببيروت في الأسبوع الماضي أنهم -أي المقاومة- حصلوا على وثائق تثبت علاقة «القاعدة» بالنظام الإيراني، وتشير إلى وجود «حلف» بينهما، وأن طهران تمد يد المساعدة لعناصر من «القاعدة» بواسطة تزويدها بالذخيرة والسلاح حيناً، والملجأ الآمن داخل الأراضي الإيرانية أحياناً أخرى. والهدف -كما قال- هو أن طهران و«القاعدة» بدورهما تقاتلان عدوين مشتركين هما جنود الاحتلال الأميركي والمقاومة البعثية. وعندما سَألتُ هذا القيادي البعثي المقاوم عما إذا كانت هذه الوثائق قد وصلت إلى الأيدي الأميركية، رد بابتسامة عريضة وامتنع عن الاسترسال في الكلام حول هذا الموضوع.
وإذا كان هذا الكلام دقيقاً فإنه يشير إلى وجود تغييرات جذرية مستقبلية في التحالفات على الأرض العراقية، وما يؤكد صحة هذا الكلام تبادل رسائل غير معلنة بين قيادة البعث المقاوم وصانعي القرار في واشنطن. وهذه الرسائل لم تؤد إلى الآن إلى تفاهم كلي أو جزئي، لكنها استطاعت أن تذيب الجليد. كذلك فإن استمرار تبادلها عبر قنوات سرية يدل على وجود احتمال في التوصل إلى صيغة ما في المستقبل.
في هذا المجال، فإن هناك معلومات شبه موثوقة تفيد أن الجانب الأميركي طلب لقاء عزت الدوري شخصياً، غير أن الدوري أبلغه أن مثل هذا اللقاء سابق كثيراً لأوانه، ويجب التفاهم على شروطه السياسية، وليس الأمنية قبل أي شيء آخر. من هذه الشروط أن المقاومة البعثية لا تثق بالوعود الكلامية الأميركية، وأنها لن تقبل بأقل من تحديد موعد ثابت لانسحاب «القوات الغازية» يعلنه البيت الأبيض ثم يوافق عليه الكونغرس ثم يحال إلى الأمم المتحدة، حيث يتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً علنياً به. مقابل ذلك فإن المقاومة البعثية تتعهد، نظرياً وعملياً، بالعمل الميداني وغير الميداني بالمساعدة الفعالة في أي خطة تقترحها واشنطن لسحب قواتها من العراق، مع الحفاظ على ماء وجه هذه القوات، وفي إحدى هذه الرسائل السرية المتبادلة، نُقِل على لسان عزت الدوري ما حرفيته: «نحن لا نقاتل من أجل هدف هزيمة الولايات المتحدة، بل لتصحيح أخطاء الغزو وانسحاب القوات الأجنبية عن أراضينا». وفي رسالة أخرى قيل إن الدوري «اعترف» ببعض أخطاء القيادة السابقة، لكن «هذه الأخطاء -من وجهة نظره- لا تبرر بأي شكل من الأشكال الغزو وجرائمه وتحويل العراق إلى بحيرة من دماء العراقيين والأميركيين وسواهم على حد سواء». و«يجب العمل على إيقاف هذه المذبحة قبل فوات الأوان». ولعل الجملة التي أثارت ارتياح البيت الأبيض والتي وردت في إحدى الرسائل تشير إلى «الرغبة» في الحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة.
حسب معلوماتي، فإن هذه الرسائل لم تساهم في أكثر من إذابة الجليد، وأنها لم تلق أذناً صاغية في البيت الأبيض إلى الآن، مما دفع قيادة «البعث المقاوم» إلى القناعة بأن إدارة بوش غير مستعدة، لا اليوم ولا غداً، للدخول في أي نوع من أنواع المساومات الجدية، لأنها إذا فعلت ذلك، فهي تعترف أمام الأميركيين وأمام العالم بخطأ غزو العراق. وهو أمر صعب، إذا لم يكن مستحيلاً، خصوصاً أن الحزب الجمهوري بات على أبواب انتخابات رئاسية جديدة. لذلك فإن خروج الجمهوريين من البيت الأبيض ودخول الديموقراطيين إليه يمنح الفرصة الذهبية للتلاقي والمساومة. ومن الآن إلى أن يقرر الناخب الأميركي مصير هوية رئيسه الجديد، فإن المقاومة البعثية ستزيد من عملياتها داخل العراق، بغية الوصول إلى «طاولة المساومة» بورقة قوية. وإلى حين حدوث ذلك، فإن خطاً أو عدة خطوط يجري إنشاؤها مع عناصر مهمة تنتمي إلى الحزب الديموقراطي مؤهلة لتبوء مراكز أساسية في صناعة القرار في حال نجاح الحزب في كسب الانتخابات الرئاسية. وفي الانتظار، فإن بعض العناصر التي تحمل هوية الأمم المتحدة مستمرة في نقل الرسائل بصورة غير رسمية، بناءً على طلب عزت الدوري وموافقة بعض المسؤولين عن العراق في البيت الأبيض الجمهوري.
من ناحية أخرى، فإن واشنطن بدأت تعاني مشكلة جديدة من المتوقع أن تقفز إلى الصدارة في الأجهزة الإعلامية الأميركية وفي المداولات السياسية في واشنطن، وهي مشكلة الأكراد، والحدّ من طموحاتهم السياسية والجغرافية. فالأكراد، بالنسبة لواشنطن، هم الحليف الذي يؤمن جانبه، ولا يمكن التخلي عنه في الوقت الحاضر على الأقل، لكنهم في الجانب الآخر، بدأوا يشكلون عبئاً ثقيلاً.
«نيويورك تايمز» في عددها الصادر في الأول من فبراير وضعت الإصبع على الجرح الكردي، فأشارت إلى أن الأكراد بدأوا يفقدون رصيدهم السياسي في أروقة السياسة الأميركية نتيجة طموحهم غير الواقعي وغير المنطقي، سياسياً وجغرافياً ومالياً، وبالتالي استثمار غزو العراق إلى آخر نقطة من دماء الجنود الأميركيين. وقالت بالحرف الواحد: «إن الأكراد يتبعون سياسة تثير عداء الفرقاء الآخرين في العراق. إن إصرار الأكراد على ضمّ مدينة كركوك الغنية بالنفط يؤدي إلى توحيد السنّة والشيعة وحكومة المالكي... بالنسبة للولايات المتحدة فإن هذا الوضع يؤثر على جهودها في بناء حكومة مستقرة وفاعلة في العراق... إن الأكراد، بصورتهم الحالية، هم حلفاء لأميركا. ولكن الأميركيين بدأوا يشعرون بالضيق المتزايد وغير المريح من هذا الوضع وقد يؤدي ذلك إلى دفع الأميركيين إلى الاختيار بين الأكراد الذين ساعدتهم أميركا ومنحتهم الحماية منذ فترة طويلة، والعراقيين العرب التي ساهمت أميركا في خلق حكومة لهم».
* كاتب لبناني