هناك شعراء يكتبون الشعر ويتحدثون عنه وشعراء يكتبونه ويعيشون فيه، منهم سعدي يوسف الشاعر العراقي الصديق الذي خرج من بلاده قبل أكثر من ربع قرن لكي يتجول في العالم الواسع باحثا عن ملاذ يليق بالشاعر وبأحلامه وحريته لكنه في النهاية وبعد البحث والتأمل والانتقال من بلد إلى آخر لم يجد سوى الشعر فالتف به وعاش فيه.

Ad

من دون جهد كبير سيكتشف القارئ ولع سعدي يوسف بالسفر والاحتكاك بالعالم ومعرفته ربما منذ بداياته الشعرية وسيتذكر قوله في إحدى قصائد ديوانه «الأخضر بن يوسف ومشاغله» الصادر في بغداد عام 1972:

تصير المسافات لي راية

إن أهلي بعيدون

لا تحمل الطير أخبارهم لي

ولا تحمل الطير أخبارنا

هذا السفر الدائم ميز تجربة سعدي وشحنها بالثراء والحيوية وبالفرادة أيضا خصوصاً عندما ارتبط بالذعر والفرار، سفر المطارد الخائف الذي لا يملك رفاهية المفاضلة أو الاختيار:

كنا في قاع سفينة شحن

أسرى وعبيداً

نتكوم فوق حبال يقطر منها زيت أسود

وننام على أذرعنا مذعورين

قطعنا البحر العربي

قطعنا البحر الأحمر

ودخلنا في المتوسط

أي بحار مازال علينا أن نقطعها

في قاع سفينة شحن؟

لوّن السفر تجربة سعدي الحياتية ومن ثم قصائده التي سيلاحظ القارئ احتفاءها بأجواء السفر ومفرداته «المطارات - الفنادق - مكاتب الجوازات - الحافلات والمحطات - أسماء المدن والعواصم التي زارها الشاعر أوعاش فيها» لكن السفر في الثقافات كان الأهم والأعظم أثرا في تجربة سعدي الذي واصل الرحيل والانتقال من ثقافة إلى غيرها ومن بلد إلى آخر، «سأتابع وجدي خطواتي... وأظل أسير أسير أسير إلى البلد الآتي» والسفر الثقافي فتح تجربة سعدي على إبداع الآخر وشعره وأسلوب حياته فرأى وقرأ وترجم لعدد من الشعراء الكبار، منهم والت ويتمان، وكفافي وريتسوس.

في الديوان الأخير «أغنية صياد السمك وقصائد نيويورك» الصادر في القاهرة قبل أسابيع يواصل سعدي تجواله وسفره ومعاناته.

عصاه تمضي به إلى ما ليس يدري كما يقول في إحدى قصائده وخطاه تقوده إلى غرفة تحاول أسره وطمس تفرده:

أنا في الغرفة

نافذتي واسعة والأستار تشف

المطر الناعم مثل هوائي التلفزيون

يطل علي من الأعلى

ويحاول أن يجعلني فردا

في مملكة لعناصر لا أفهمها.

في إحدى قصائده يعلن الشاعر أن المغادر ليس المهاجر وأن السفر قانون للوجود وأساس له «كل ما في الكون يرتحل الكواكب والأفاعي والثعالب والزرازير الذئاب ودودة الأرض الخنافس والجذور....» ويطلق في قصيدته «مرحبا» صيحة المسافر المأخوذ الذي لا يستقر ليصبح له مكانه وعنوانه «مرحبا كيف جئت إلي... وكيف اهتديت إلى مكمني؟» ليضعنا معه في دوائر الدهشة وليحيلنا في النهاية إلى القصيدة كملاذ يحتمي به وإلى الكتابة الشعرية كممارسة للوجود وتأكيد دائم له، الأمر الذي يفسر الغزارة الشعرية التي صاحبت سعدي منذ بداياته حتى الآن.

لكن العراق رغم ذلك كله ظل حاضراً في القصائد، لأن المغادر ليس المهاجر الذي يدير للوطن ظهره، ويستبدل به المهجر، ولأن المبدع لا يملك ولا يستطيع إلغاء ذاكرته والانتماء إلى الضياع، لذلك يقدم سعدي نفسه لقرائه في قصيدته «شهادة جنسية» بعبارة مركزية تتكرر طوال القصيدة «عربي من العراق أنا» مستعيداً ومجسداً مع التكرار مدن العراق وتراثه وتاريخه وخصوصيته.

في شعر سعدي احتفاء بارز ودائم بالشخصي واليومي والحميم وتوظيف للسرد والقص أحيانا، وهذه التقنيات التي ساهم الشاعر في ترسيخها منذ بداية التسعينيات والتي شاعت في الأعوام الأخيرة، خصوصاً في قصيدة النثر مازالت في قصائد سعدي الأخيرة مصدراً للتوهج والتميز والشعرية.

* كاتب وشاعر مصري