بات البحث عن مذيع هاجساً يومياً عند صناع المحطات ومديريها، ومن ذلك أنك أصبحت تسمع أرقاماً يتقاضاها مذيعون يمكن وصفهم ببساطة بأنهم «مجيدون أو محترفون أو يتمتعون بالقبول» تتخطى ما يتقاضاه لاعبو كرة القدم ورؤساء الدول وعارضات الآزياء في الغرب.تحكي النكتة أن شاباً غبياً لا يحمل أي مؤهل أتى لصاً خبيراً طالباً أن يجد له عملاً في السرقة؛ فإذا باللص الأريب الذي تفحصه فأدرك غباءه وقلة حيلته، يرفض رفضاً قاطعاً. يعود الشاب مستعطفاً وملحاً: «أن أخضعني للاختبار، وستجدني نافعاً». فيُعرِض اللص الخبير عنه، محاولاً صرفه والتخلص منه ونصحه ببديل أنفع في آن واحد: «اشتغل مهندساً... أو افتح لك عيادة».
والمعنى واضح، والمغزى متعدد المستويات؛ فاللصوصية مهنة صعبة، تحتاج إلى استعداد وتأهيل، وأحوال مجتمعنا باتت من التردي إلى حد أن تقبل مهنيين في وظائف تتسم بالأهمية الشديدة والخطورة رغم عدم امتلاكهم المهارات والتأهيل المناسب، ومن دون سبب معياري أو موضوعي واضح سوى رغبة هؤلاء في الحصول على عمل أو هذا النوع من العمل بالذات.
وإذا كان المهتمون بسسيولوجيا النكتة يتحدثون عن «مراجعة دورية من قبل المجتمع لتراثه ومخزونه وإنتاجه من النكت بما يضمن التوافق بين هذه النكت والاعتبارات والأوضاع الاجتماعية السائدة»؛ فلاشك أن هذه النكتة بالذات تحتاج مراجعة عاجلة، لتكون النصيحة للشاب العاطل من كل موهبة أو تأهيل، والباحث عن أي فرصة للعمل، مهما كانت بعيدة كل البعد عن اهتماماته واستعداده، على النحو التالي: «اشتغل مذيعاً».
ولاشك أن هذا التعديل يجد ما يؤيده في الواقع ويبرهن عليه؛ فليس أسرع من النمو السكاني في المنطقة العربية، وارتفاع أسعار البترول، وأرباح شركات الاتصالات اليوم سوى التزايد في عدد القنوات الفضائية. زيادة يومية مطردة، يمكن وصفها بـ«المجنونة» عند مقارنتها بأوضاعنا الأخرى في الإنتاج والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
ففي أكتوبر من العام الفائت 2007، رصدت «مجموعة المرشدين العرب» في الأردن 370 محطة فضائية ناطقة باللغة العربية، وهو رقم يزيد بنسبة 30 في المئة على العدد في شهر يوليو من العام نفسه. واليوم يمكن إحصاء 403 قنوات فضائية ناطقة بالعربية، تبث نحو ثمانية آلاف ساعة يومياً، وتحتاج إلى أكثر من عشرة آلاف مذيع وقارئ نشرة ومراسل ميداني، وفق قواعد التشغيل العادية، ومع مراعاة أن نحو 20 في المئة من تلك القنوات مخصص للأغاني والموسيقى، وبعضها قائم على فكرة المسابقات وتلقي الاتصالات من المشاهدين.
الرقم جد مذهل، ليس في حجمه الكبير الذي فاجأ الصناعة بينما لم تكن مستعدة له، ولكن أيضاً في نموه المتسارع؛ الأمر الذي يخلق يومياً طلباً على هذه المهنة بالذات أسرع من مثيله في غيرها من المهن مهما كانت مهمة ومؤثرة.
وليت الأمر اقتصر على هذا فقط؛ إذ كان من المفترض أن ينهض بعبء سد هذا الطلب المفاجئ والمتسارع رافدان محددان؛ أولهما التعليم النظامي، بشقه المختص بدراسة الإعلام، وثانيهما المؤسسة الإعلامية القائمة بالفعل في بلداننا العربية، والتي تمتلك خبرة احترافية تمتد لأكثر من ستة عقود.
لكن، والحال كما نعلم جميعاً، فقد عجز هذان الرافدان عن الوفاء بذلك الاستحقاق؛ إذ بقي التعليم النظامي، كعادته، غير قادر على استيعاب حاجات السوق، مغرقاً في تقليديته ونزعته التلقينية، أبطأ من أن يجاري التطورات المذهلة التي حدثت في صناعة الإعلام، خصوصاً بعد الاختراقات التي تحققت بفضل المزج بين مستجدات وسائل الاتصال وتطورها التقني وبين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة.
أما الخبرة التي تكونت في المؤسسة الإعلامية العربية في مختلف دولنا على مدى العقود الستة الفائتة، فقد ظلت كما نعلم جميعاً، أسيرة للنمط التقليدي، الذي تم تكريسه عبر آليات السيطرة، التي فرضها نمط تملك الدولة وإدارتها لوسائل الإعلام.
وبقي الأمل قائماً في إعادة تأهيل إعلاميي تلك الوسائل للوفاء بطلبات المرحلة الراهنة، أو الاستعانة بإشراقات بعض النابهين منهم، والذين أثبتوا تفوقاً سواء داخل المنطقة أو خارجها، كما بقي أمل في نتاجات بعض مؤسسات التعليم الإعلامي المحظوظة بإدارات محترفة، أو تلك المؤسسات الأجنبية التي تدّرس الإعلام في المنطقة وفق قواعد ومناهج غربية في الأساس.
لكن هذه الاستثناءات لم تنجح حتى الآن في تحقيق المطلوب، وبات البحث عن مذيع هاجساً يومياً عند صناع المحطات ومديريها، ومن ذلك أنك أصبحت تسمع أرقاماً يتقاضاها مذيعون يمكن وصفهم ببساطة بأنهم «مجيدون أو محترفون أو يتمتعون بالقبول» تتخطى ما يتقاضاه لاعبو كرة القدم ورؤساء الدول وعارضات الآزياء في الغرب، وتزيد عما يحصل عليه أي مهني يتقاضى راتباً في أي نشاط اقتصادي في الشرق مهما كانت أهميته وربما خطورته.
وأصبح من المستساغ أن تسمع عن تنافس محطتين على مذيع أو مذيعة، وعروض تتحرك أرقامها مرات عدة في اليوم الواحد في مزاد مفتوح، وصراعات تفوق ما يحدث بين الأندية على اللاعبين المشاهير حدة وشراسة.
وفي غضون ذلك، دخل المئات، بل الآلاف إلى المهنة؛ معظمهم غير مؤهل علمياً أو ثقافياً، وبعضهم لا يتحلى بدرجة الرشد والأهلية الاجتماعية الملائمة لوظيفة تتطلب أن تتصل بالناس، فضلاً عن أن تكون حارساً على بوابتهم الإعلامية، وقائد رأي أحياناً، في مجتمع يكاد يكون نصفه من الأميين.
ونتيجة لذلك برز مئات النجوم الجدد، الذين صادف دخولهم سوق العمل تطورات مذهلة في مجال الإعلام وإطلاق الفضائيات، ولحسن حظهم فلم يكونوا يمتلكون أي خبرة أو مهارة أو تأهيل مناسب للاشتغال بأي من الوظائف المتاحة في المجتمع، ولم يجدوا حلاً سوى أن يعملوا في تلك الصناعة المخطوفة من قبل النمو المذهل وغياب المعايير... فصاروا مذيعين.
* كاتب مصري