المستقبل المباشر لحركات الجهاد: ازدهار أم انحسار؟

نشر في 10-02-2008
آخر تحديث 10-02-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

لايبدو أن الخط النزولي لعمليات وقدرات التنظيمات الجهادية المتطرفة سوف يتوقف في الأمد المباشر، ونتوقع أن يزداد الميل إلى التركيز الاستراتيجي الذي كان مفقوداً تماماً في عمليات «القاعدة» خلال السنوات القليلة المقبلة، وذلك في سياق عام من هبوط القدرات.

رغم بعض العلامات المضادة يبدو لي الاتجاه العام واضحاً للغاية: الإرهاب باسم الإسلام يتراجع بصورة مؤكدة سياسياً وعسكرياً، أما التربة الثقافية فتبدو أقل وضوحاً.

العلامات المضادة مازالت بالطبع كثيرة، فخلال الشهر الأخير من 2007 تمكنت تنظيمات إرهابية من القيام بعمليتين كبيرتين في قلب العاصمة الجزائرية بعد شهور من الهدوء، ثم كررت هذه العمليات في نهاية الأسبوع الأول من يناير الماضي، ولو ثبت صحة الادعاء الذي أطلقه بعض الخبراء الباكستانيين مثل مصباح الله عبدالباقي لحققت الجماعات الإسلامية المتطرفة في باكستان أكبر نجاحاتها باغتيال السيدة بينظير بوتو. وخلال 2007 تمكنت تنظيمات ذات صلة بـ«القاعدة» من القيام بعمليات صغيرة في المملكة السعودية واليمن والمغرب والسودان.

أما أهم العلامات المضادة فهي ما يقال عن استعادة قدرات تنظيم «القاعدة» في أفغانستان خلال العامين الأخيرين، وخلال عام 2007 عاد أسامة بن لادن في محاولة للإيحاء بالثقة بالنفس للإدلاء بتصريحات علنية ومذاعة خصوصاً من محطة «الجزيرة» بعد أن ظل مختفياً أكثر من عامين متصلين. وخلال الأسابيع القليلة الأخيرة أذاع أيمن الظواهري المسمى بالرجل الثاني وربما يكون الأمير الفعلي الراهن للتنظيم رغبته في الإجابة عن أسئلة المهتمين في البلاد العربية والإسلامية على شبكة الإنترنت. وتؤكد بعض المصادر الصحفية أنه بدأ يتلقى بالفعل آلافاً من الرسائل من مختلف البلاد العربية والإسلامية بما فيها مصر، وبوجه عام فإن صعود طالبان من جديد في أفغانستان مهد الطريق لإعادة بروز «القاعدة» باعتبارها التنظيم العربي الحليف الذي يعمل على نطاق عالمي. ويعتقد كذلك أن تنظيم الجماعة الإسلامية الذي يتمتع بالنفوذ في منطقة القبائل في باكستان قد ضاعف من نشاطه وقوته، وصار يعمل بوضوح للحصول على مزايا سياسية داخل منظومة الحكم في هذا البلد.

النكسات والخط النزولي

ثمة من يقول لنا إن الحركات الجهادية المتطرفة تعزز قوتها فعلاً، وتحرص هذه الحركات نفسها على تأكيد هذا المعنى بإلحاح خصوصاً عبر شبكة الإنترنت وخارجها.

ولكن هذه العلامات لا تكاد تخفي الاتجاه العام وهو تراجع قدرات هذه المنظمات بل وقوع نكسات كبيرة جداً لأهمها خصوصاً تلك المرتبطة بتنظيم «القاعدة».

إن أهم النكسات التي شهدتها التنظيمات الجهادية المتطرفة في عام 2007 وقعت من دون شك في العراق والصومال. لقد توقف فجأة الخط البياني الصاعد للعمليات العسكرية والإرهابية لتنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين وبدأ في الهبوط السريع. وكان النجاح الهائل الذي حققته عمليات هذا التنظيم منذ الاحتلال الأميركي للعراق حتى نحو منتصف 2007 يدفع للاعتقاد بأنه تنظيم المقاومة الرئيسي، والذي قد يتمكن من حسم الصراع حول العراق لمصلحة إذا ما انسحبت القوات الأميركية والقوات الحليفة لها.

وخلال النصف الثاني من 2007 بدت نكسة التنظيم مؤكدة، إذ تلقى ضربات كبيرة من القبائل السنية واضطر لسحب قواته من بعض المناطق القبلية في الوسط، ومن ناحية أخرى انخفضت بشدة عمليات التفجير العشوائي والاستهدافي التي تقوم بها خلال نفس الفترة، وسوف يسعى التنظيم إلى استعادة الرعب المرتبط باسمه، وهو ما حدث فعلا خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، ولكن هذه المحاولات نفسها تشي بالضعف أكثر من القوة الخارقة التي كانت.

أما في بقية البلاد العربية فالتنظيمات الجهادية وعلى رأسها تلك التي ترتبط ماديا أو رمزيا بـ«القاعدة» تتراجع بسرعة أو تسحق فعليا.

والواقع أنه يمكننا القول إن هذه الحركات فقدت قوتها السياسية تماماً تقريباً ولم تعد عاملاً مؤثراً في سياسات الأكثرية الساحقة من البلاد العربية الإسلامية التي كانت تنشط فيها بالمقارنة بالتيارات الرئيسة للحركة الإسلامية والتي تأخذ باستراتيجية العمل السياسي والجماهيري والدعوي.

وقد اعترفت هي نفسها بهذه الحقيقة، وكانت أكثر هذه الاعترافات فتكاً بمستقبل العمل الإرهابي هي «مراجعات» الجهاد في مصر خلال 2007. وقد حظيت هذه المراجعات التي أذاع أهمها المرشد الفكري لتنظيم الجهاد الدكتور سيد إمام بنقاش واسع للغاية، ولم تعلن سوى أقلية ضئيلة للغاية من الجهاديين التاريخيين رفضها لهذه المراجعات.

ولكن الأهم من المراجعات الفقهية هو اكتشاف عقم العمليات الإرهابية من الناحيتين العسكرية والسياسية، فالعمليات الإرهابية التي قامت بها تنظيمات تنسب نفسها إلى الإسلام متخبطة لا تصنع أي معنى منسجم ولا تدفع إلى أي تأثير عسكري محدد، وهي فوق ذلك تلقى استنكار الأغلبية الساحقة من السكان، ومقابل عمليات أكثرها متفرق ولا قيمة له من الناحيتين العسكرية والسياسية تدفع التنظيمات الجهادية ثمناً كبيراً للغاية يتمثل في أعداد كبيرة من القتلى والمعتقلين والمعاقين بسبب المواجهات العسكرية والاعتقالات والتعذيب.

تجفيف المنابع

وينسب الأميركيون الفضل في هذا الخط النزولي للإرهاب «الإسلامي» لأنفسهم، ولا شك أن بعض التدابير كانت مؤثرة فعلاً وبصورة خاصة التدابير الهادفة إلى تجفيف المنابع المالية للتنظيمات الجهادية، ومع ذلك فالأدق هو أن نستنتج العكس تماما، فالسياسات الأميركية المهينة والظالمة في المنطقة هي ما يدفع لاستمرار هذه التنظيمات.

أما الأسباب الحقيقية للخط النزولي فيعود إلى هذه التنظيمات نفسها، إذ إن حركة المراجعات تشكل بعداً مهماً في هذا الخط، ولكن هناك اعتبارات أخرى كثيرة.

بعض هذه الاعتبارات موضوعية وتعكس الهامشية المتزايدة للتنظيمات الجهادية في المجتمعات العربية والإسلامية الكبيرة على الأقل، ويبدو أن التخبط الشديد الذي ميّز عمليات «القاعدة» في العراق قد استنفد نسبة ضخمة من المقاتلين في عمليات انتحارية لا طائل من ورائها من الناحية العسكرية. كما أن تشديد الرقابة على حركة الكوادر الجهادية عبر الحدود السعودية وبعض دول الخليج الأخرى قد «جففت» فعلياً منابع التجنيد وهو ما يظهر في الاعتماد المتزايد على النساء في العراق. وعلى ما يبدو فإن الخلاف بين الكوادر العربية والعراقية حول استراتيجية العمل ضد القوات الأميركية كان له دور أيضا. العراقيون يريدون فعلا دفع الأميركيين للانسحاب، بينما يستهدف المقاتلون العرب الآخرون مزيداً من الانغماس الأميركي في العراق بهدف استنزاف الولايات المتحدة هناك لأطول فترة ممكنة. ويبدو أن الجفاف في عرض المقاتلين أدى إلى انتصار التيار الأخير.

وحتى في أفغانستان فصعود طالبان ليس ضماناً كافياً لازدهار «القاعدة»، فأولا يحمل قطاع كبير من طالبان قيادات «القاعدة» والمقاتلين العرب عموماً مسؤولية خسارتهم للسلطة بسبب الاحتلال الأميركي كرد فعل لأحداث 11 سبتمبر، ومن ناحية ثانية فرغم عودة طالبان إلى الصعود فهي ليست في وضع مشابه لما كانت عليه قبل خسارة السلطة ولا في أي وقت سابق منذ نشأتها. إنها تعاني ضعفاً لا يقل خطورة عن ضعف قوات الناتو هناك، ولو لأسباب مختلفة بالطبع. ويعني ذلك أن طالبان لم تعد تحتمل ولا تسمح بمنح «القاعدة» تلك الحرية الكاملة في العمل كما كانت الحال قبل عام 2001. وبوجه عام فإنه رغم استمرار كثير من الإعجاب بـ«القاعدة» بين الشباب المتطرف في بعض الدول العربية والإسلامية لا يبدو أن ثمة تدفقاً من هؤلاء الشباب على أفغانسان يماثل على أي نحو ما كانت تتمتع به حتى 2001.

والواقع أننا نلحظ أيضاً مراجعة وإعادة هيكلة لاستراتيجية التنظيمات الجهادية وعلى رأسها «القاعدة». وبوجه عام يبدو أن التنظيم قد خفض عملياته العالمية والمحلية معاً من أجل التركيز على العراق. ويبدو أن العراق صار حجر الزاوية في الاستراتيجية العالمية لـ«القاعدة». ولكن حتى هناك فإن ثمة مراجعة وإن ليست مؤكدة للاستراتيجية السياسية والعسكرية بعد سلسلة النكسات التي ألمّت بالتنظيم. ومن ناحية ثالثة فإن «القاعدة» تأخذ حالياً بمنظور زمني أطول بكثير ولا يبدو أن التنظيم متعجل في تحقيق انتصارات تكتيكية على حساب ضمانات النصر على المدى الطويل. وفي هذا السياق يبدو أنه كان يقوم بعملية إعادة تنظيم لقواه البشرية، إذ يبدو أنه يتجه إلى التخلي تماماً عن عملياته العشوائية في معظم البلاد العربية مقابل التركيز على الجزائر والعراق وباكستان وأفغانستان.

من الإرهاب إلى السياسة

ومع ذلك لايبدو أن الخط النزولي لعمليات وقدرات التنظيمات الجهادية المتطرفة سوف يتوقف في الأمد المباشر، ونتوقع أن يزداد الميل إلى التركيز الاستراتيجي الذي كان مفقوداً تماماً في عمليات «القاعدة» خلال السنوات القليلة المقبلة، وذلك في سياق عام من هبوط القدرات. ولا يستبعد هذا التقدير بالطبع إمكان أو احتمال تحقيق انتصارات تكتيكية صاعقة وذات قيمة إعلامية كبيرة.

ولكن حتى هذه لن يمكنها أن تخفي الاتجاه العام للحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، الميل الإرهابي كان تعبيراً عن تصدعات كبيرة في بنية المجتمعات العربية بسبب شدة الانتقال إلى الرأسمالية والعولمة وغيرها من العوامل، ولكن النضوج النسبي والسيطرة التدريجية على التصدعات في الهوامش الاجتماعية والسياسية الواسعة يؤدي إلى تركيز الحركة الإسلامية على التجذر من خلال العمل السياسي المنظم وليس المواجهات العسكرية.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top