سلّة ساركوزي المتوسطية اتحاد أم شراكة؟!
هناك أربعة إطارات تحكم علاقة ضفتي المتوسط وهي: الأول العلاقات السياسية الحكومية وشبه الحكومية، تلك التي تحكمها سياسات وفلسفات ومصالح، أما الإطار الثاني فهو العلاقات الاقتصادية والتجارية، وهي السلة الثانية الموازية للسلة السياسية، أما الإطار الثالث فهو المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وتعتبر الثقافة هي الإطار الرابع.الاتحاد الأوروبي المتوسطي هو السلّة الساركوزية الأولى التي حملها الرئيس الفرنسي الى دول جنوب البحر المتوسط، وهذا ما كان قد أعلنه في المنتدى المتوسطي في جزيرة كريت اليونانية في 2 يونيو 2007، أي بُعيد تسلّمه لمنصبه الرسمي في 16 مايو.
إن طرح ساركوزي فكرة الاتحاد المتوسطي من جديد وبحماسة شديدة يستهدف بلا أدنى شك تعزيز مكانة فرنسا واستعادة نفوذها التقليدي في منطقة تعتبر ضمن امتداداتها الجيوبولتيكية ومصالحها الاستراتيجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى «مواجهة» التمدد الأميركي- الآسيوي في المنطقة رغم انه حاول أن يلعب دور رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في اقتفاء اثر سياسة واشنطن، ولكن كيف يقدّم ساركوزي هذه السلّة للعرب أو لجنوب المتوسط دون تغييرات جدية في السياسة والمواقف!كثيرون اعتبروا تصريحات ساركوزي غامضة وملتبسة، وذلك بسبب أن قسمات مشروعه للاتحاد لم تكن واضحة، ثم ما الفرق بينها وبين مشروع الشراكة الاورومتوسطية الذي ابتدأ في برشلونة عام 1995؟!وإذا كان المسار الأوروبي- المتوسطي قد تعرّض للتصدّع أو أنه تعكّّز على ساق واحدة، فإن المبادرة الفرنسية التي تريد الارتقاء به الى سقف أعلى من مسار برشلونة على ماذا تراهن، لاسيما أنها تتحدث عن اتحاد وليس شراكة؟ فمسار برشلونة جابه عقبات وتحديات واحتوى على ثغرات، هي ذاتها التي يمكن أن يتعرض لها الاتحاد أو يواجهها، ولعل أي مشروع قديم أو جديد لابدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار عدداً من القضايا الأساسية، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية: الاولى تتعلق بصياغة مفهوم مشترك حول الارهاب الدولي، مع التخلي عن ربطه بالمسلمين من سكان جنوب البحر المتوسط، فالإرهابيون والمتطرفون موجودون في كل دين، وفي كل مجتمع، أما المسألة الثانية فهي ضرورة احترام الخصوصيات الثقافية والدينية وعدم التجاوز عليها أو الانتقاص منها بحجة الشمولية والعالمية، والمسألة الثالثة هي اتخاذ استراتيجيات مشتركة لتطويق وتنظيم ظاهرة الهجرة غير الشرعية بإرساء فكرة الأمن الإنساني الجماعي، والمسألة الرابعة هي البحث في المشترك الانساني، أي في الخاصيات المشتركة للأمم والشعوب على أساس قيم الحرية وحق تقرير المصير وعدم التحلل من المعايير الدولية بحجة الخصوصية، مادامت توجد قيم مشتركة للبشر بغض النظر عن القومية أو الدين أو الجنسية أو اللغة أو اللون أو الانحدار الاجتماعي.ولعل هذه المسائل تطرح قضية حوار الحضارات وتفاعل الثقافات للوصول الى الأهداف المشتركة، تلك التي عجز مسار برشلونة عن الوصول اليها بل من استيعاب أبعادها، ولكن ذلك كله يعتمد على المساواة في الحقوق وعلى الندّية واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو إيجاد مبررات وذرائع تحت يافطات انسانية لتوظيفها لأهداف سياسية! لا ينطلق مشروع ساركوزي من الصفر بل هو استمرار لمشروع سلفه شيراك، فقد سبق لرئيس وزرائه دومينيك دو فيلبان أن طرح فكرة تعزيز مكانة اللغة الفرنسية في المغرب العربي وتطوير الشراكة في مجال التكوين والبحث العلمي وإرساء تعاون متطور في قطاع الإعلام السمعي والبصري وإقامة علاقات متينة مع مؤسسات المجتمع المدني في ضفتي المتوسط، وبالطبع فإنه يتوجه الى تأسيس اتحاد شامل بين 27 دولة اوروبية متوسطية وبين 11 دولة من الضفة الجنوبية للمتوسط هي خمس دول مغاربية (المغرب وتونس والجزائر وليبيا وموريتانيا)، وست دول أخرى هي مصر وتركيا ولبنان واسرائيل وسورية والأردن. لكن تركيا وخصوصا بعد فوز حزب العدالة والتنمية بادرت الى اعتبار الدعوة الى الانضمام الى الاتحاد المتوسطي هي أشبه بالحصول على مقعد صغير من الدرجة الثانية، وإيصاد الباب أمام انضمامها الى الاتحاد الأوروبي رغم أن الاتحادين كيانان مختلفان عن بعضهما، وهذا الأمر أثار ردود فعل على ضفتي المتوسط من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لاسيما أن البعض تخوّف من سعي الإدارة الأميركية لتعطيله أو حتى لقصّ أجنحته قبل أن يحلّق في سماء المتوسط.لقد أظهر مسار برشلونة ضعف إرادة الاوروبيين لتطوير شراكة حقيقية، إضافة الى عدم حماسة الضفة الجنوبية للمتوسط لذلك، لاسيما باستمرار سياسة التنكّر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، واتهام العرب والمسلمين بالإرهاب والتضييق على الجاليات العربية والاسلامية في الغرب ومحاولات إملاء الإرادة وفرض الاستتباع، هذا من جهة الضفة الشمالية للمتوسط، ومن جهة أخرى استمرار أوضاع هدر الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وضعف سيادة القانون واستقلال القضاء والموقف السلبي من المرأة والأقليات وقضايا الحداثة والإصلاح والديموقراطية بشكل عام لدى الضفة الجنوبية للمتوسط. أتيح لي منذ عقدين من الزمان أن أحضر في العديد من الفعاليات والأنشطة للشراكة الأوروبية- المتوسطية كان آخرها في باريس بدعوة من غرفة التجارة العربية- الفرنسية التي يرأسها د. صالح بكر الطيار، لكن الشيء الكثير لم يتحقق على صعيد تجسير الفجوة بين شطري المتوسط أو تعزيز الثقة والتعاون بين الطرفين، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة عام 2001، وظلت حقول كثيرة بحاجة الى عمل جدي وجهد كبير فكري وثقافي وحقوقي لإرساء ثقافة السلام وتحقيق العدل والتنمية والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، الأمر الذي دعا الرئيس الفرنسي ساركوزي الى الترويج لفكرة الاتحاد المتوسطي، ارتقاء بصيغة الشراكة.أعتقد أن هناك أربعة إطارات تحكم علاقة ضفتي المتوسط وهي: الأول العلاقات السياسية الحكومية وشبه الحكومية، تلك التي تحكمها سياسات وفلسفات ومصالح، أما الإطار الثاني فهو العلاقات الاقتصادية والتجارية وهي السلة الثانية الموازية للسلة السياسية، أما الإطار الثالث فهو المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وتعتبر الثقافة هي الإطار الرابع، ولا يمكن الحديث عن شراكة أو اتحاد أو تعاون أو حتى تنسيق دون وجود ثقافة تعترف بالآخر وتتعامل معه على قدر من المساواة.ولكن ما الذي سيقدمه ساركوزي بعد إعلان انحيازه، خارج الدبلوماسية الفرنسية المعهودة، الى إسرائيل على صعيد الإطارات الأربعة بعد تعثر مسار برشلونة، فذلك سؤال سيظل يستفهم هو الآخر طالما ظلت عناصر الشك وضعف الثقة وسياسة الهيمنة وهضم الحقوق هي السائدة؟!* كاتب ومفكر عراقي