سلوك المتطرفين العنفيين تجاه المثقفين والمبدعين، الذي يتمثل في تكفير وإهدار دم، ليس إلا محصلة لطريق جرى تمهيده عبر سنوات طوال.جاء في الخبر الأول، أن الشيخ أنيس الحبيشي في اليمن يخشى على نفسه من الاغتيال إثر موقف بعض رجال الدين في بلده من مقال له يدين فيه العمليات الإرهابية ضد غير المسلمين، وتحدث الخبر الثاني عن الحكم على الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي ببيع أثاث منزله! لرفضه دفع غرامة في قضية سب وقذف رفعها ضده الشيخ يوسف البدري – الذي كان قد حصل سابقاً على حكم قضائي بتفريق الدكتور نصر حامد أبو زيد عن زوجته- بسبب نشر حجازي عام 2003 مقالاً يتهم فيه البدري بالتطرف ومعاداة الفكر والثقافة والإبداع، على خلفية قيامه بتعقب المفكرين والمثقفين قضائيا. تفاصيل القضيتين يمكن الحصول عليها من مواقع الإنترنت، أما ما وراء التفاصيل فيحتاج إلى عودة قليلا إلى الوراء.
***
في مثل هذه الأيام قبل بضعة عقود، كانت معركة الشيخ عبدالرازق مع رموز السلطتين السياسية والدينية آنذاك في مصر، على أوجها.
أصدر الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الأزهر في حينها، كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، عرض الكتاب لفكرة أساسية مفادها أن نظام الخلافة والإمامة ليس من الإسلام في شيء، ومن حق المسلمين اختيار نظام الحكم الذي يلائم مقتضيات عصرهم وتكون فيه الأمة هي مصدر السلطات، بعيداً عن الحكم السلطوي الذي يتدثر برداء الدين ويتشرعن به.
تدخل الملك فؤاد -الذي كان يطمح الى استعادة الخلافة والتمتع بلقبها لنفسه- لدى عدد من علماء الأزهر ودفع عدداً كبيراً منهم إلى اتخاذ موقف «تأديبي» من صاحب الكتاب، «فالقصر هو المسؤول عن إخراج المعركة عن إطارها الفكري الطبيعي وعن دفع بعض رجالات الأزهر إلى منزلق غريب عليهم وعلى الإسلام»، وفقا للدكتور عمارة الذي عرض للكتاب وظروف صدوره ووثقه.
بنتيجة ذلك، عقدت محكمة تأديبية للشيخ من قبل هيئة علماء الأزهر، قضت بتاريخ 12-8-1925 بإخراجه من زمرة العلماء وطرده من وظيفته كقاض شرعي في محكمة المنصورة الابتدائية الشرعية «وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية».
في هذه العقوبة، أنيطت بـ«السلطة» الدينية الرسمية ممثلة بالأزهر، مهمة النيل من خصم سياسي، وفي الوقت نفسه تولت تلك «السلطة» تصفية حسابها مع خصم فكري وخولت أمر إصدار عقوبة تقتضي بديهيات القانون وأنظمة القضاء ألا تصدر عن غير السلطة القضائية ذات الاختصاص.
مع ذلك وعلى الرغم من بعض التقاطعات في ردود الفعل السلطوية المدنية أو الدينية بين الأمس واليوم على مواقف مشابهة، لم يعتقل الشيخ أو يحكم عليه بالردة أو يجري هدر دمه.
ونرى الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان من أشد معارضي الكتاب يقول «أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه أنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه... ولكننا لا نقول في شخص صاحبه شيئا فحسابه على الله تعالى...».
وأما استرجاع وقائع تلك المعركة اليوم فليس من باب إحياء الذكرى، بل لأنها لاتزال تكرر نفسها حتى يومنا هذا، وإن كان ظلام الأمس يبدو أنواراً إذا ما قورن بما نحن عليه الآن. والآن يعني دولا مستقلة ذات سيادة، ومواثيق دولية تصون حقوق الإنسان صادقت الدول العربية على معظمها، ومنظمات حقوقية تسعى الى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها في وجه منتهكيها، وثورة اتصالات تتيح الاطلاع على، والتواصل مع، ثقافات العالم المختلفة، فضلا عما أتاحته شبكة الإنترنت من مساحة واسعة للتعبير والتفاعل المباشر مع الآخر المختلف.
وكان من المفترض أن تكون حصيلة ذلك، المبدئية على الأقل، تراكماً ثقافياً لاحترام الرأي الآخر، وقواعد قانونية وأحكاما قضائية واضحة تحول دون انتهاك الحق في التعبير الحر، وهو ما لم يحصل في العديد من الدول أو حصل بشكل خجول ومحاصر في دول أخرى من منطقتنا العربية.
واليوم كما الأمس، لايزال هذا الحق نهباً لتواطؤ غير معلن ما بين السلطة ورجال الدين، فإن كان هؤلاء يتصدون للفكر الحر –أخطأ أو أصاب- بدعوى حماية الإسلام والذود عنه، فليس للسلطة الحاكمة، حتى «العلمانية» منها، أن ترتاح لوجود عقول مبدعة وحرة لا ترتهن لها أو لغيرها. وإن كان الأمر كذلك، فإن سلوك المتطرفين العنفيين تجاه المثقفين والمبدعين، الذي يتمثل في تكفير وإهدار دم، ليس إلا محصلة لطريق جرى تمهيده عبر سنوات طوال.
مما قاله الشيخ عبدالرازق رداً على ملاحظات هيئة كبار العلماء بالأزهر على كتابه: «وإنا لنعتقد أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن الاعتراض بها على أي بحث إنما هي المناقشة فيه والمجادلة بالحسنى ولا تبيح سماحة الدين ولا عدالة القوانين أكثر من هذا الحق».
مرت أكثر من ثمانية عقود على هذه الكلمات، وبتنا لا نعلم، هل مرت نحو الأمام أم رجعت بنا إلى الوراء في غفلة من الزمن.
كاتبة سورية