اتفق الحليفان، اليمين المحافظ والأنظمة في الداخل، على أن إعادة نشر الرسوم المسيئة في 17 صحيفة أخرى تحت زعم الانتصار لحرية التعبير، سيحقق الهدف المنشود؛ إذ سنخرج جميعاً في حملة تكرس أسوأ الانطباعات عنّا، وهو ما يحقق للأول سعيه إلى البرهنة على احتياج واشنطن لرئيس جمهوري قوي، كما سيخفّف عن الثاني وطأة المطالبات الشعبية الضاغطة لمزيد من الحريات والديموقراطيات.بات حديث المؤامرة حديثاً سيئ السمعة، وربما مشبوهاً؛ الأمر الذي جعل الكثيرين من ذوي العقل وحسن النظر ينأون بأنفسهم عنه، ويفضلون تحليل الأحداث والوقائع، التي لم تدخل حيز التاريخ بعد، ولم تتكشف وثائقها، وتُبرهَن وقائعها عبر سرد الاحتمالات وترجيح بعضها واستبعاد آخر، لكن الله غالب على أمره؛ إذ يبدو أن تحليلاً عميقاً لإعادة إنتاج أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم (ص)، لن يجد مفراً من الحديث عن مؤامرة، يستغل فيها نافذون في هذا العالم مشاعرنا الدينية وانغلاقنا الثقافي، لتحقيق أهداف خبيثة، ستكلفنا الكثير في الحاضر والمستقبل.
ففي سبتمبر من عام 2005، نشرت صحيفة دنماركية 12 صورة كاريكاتورية مسيئة للرسول الكريم، قبل أن تقوم صحف أخرى في النرويج وألمانيا وفرنسا وسويسرا والمجر بإعادة نشر هذه الصور أو بعضها.
وقد قامت جمعيات إسلامية في الدنمارك، حيث يعيش نحو 200 ألف مسلم، يمثلون 3% تقريباً من إجمالي سكان البلاد، بتقديم شكوى ضد صحيفة «جيولاندس بوستن»، التي نشرت هذه الرسوم، وهي الشكوى التي تم رفضها.
فقد استندت تلك الجمعيات الإسلامية إلى المادتين 140 و266 من قانون العقوبات الدنماركي، اللتين تجرمان الاستهزاء أو المس بأي معتقدات دينية لأي مواطن دنماركي عبر النشر أو الإذاعة، لكن المدعي العام أسقط القضية قبل وصولها إلى المحكمة، معتبراً أنه لا أساس لها «بالنظر إلى حق حرية التعبير عن الرأي الذي يجب أن يمارس في إطار حقوق الإنسان».
كان من الممكن أن تنتظم الجمعيات الإسلامية في الدنمارك بإطار من المطالبة الدؤوبة والملحة في آن، عبر البحث عن منافذ قانونية تعبر الشكوى من خلالها، سواء عبر الشق الجنائي أو المدني في المنظومة القانونية بالبلاد، كما كان يمكن أن تصطف هذه الجمعيات، ومعها وجوه الجالية العربية والإسلامية في الدنمارك، بحملة علاقات عامة واسعة وممتدة، وهي حملة ستجد دعماً لا محالة، مادياً ومعنوياً وثقافياً وروحياً، من منطقتنا العربية الفائرة بالمشاعر الدينية والخيرات، بهدف توضيح المكانة التي يحظى بها الرسول الكريم في نفوس المسلمين، والتحريم الإسلامي لتمثيله صلى الله عليه وسلم، أو تجسيده بأي صورة من الصور، فضلاً عن المس بذاته الكريمة.
كان من الممكن أيضاً أن نستمر في مطالبة إسلامية حول العالم كله، تستند إلى شعارات مستمدة من مواثيق حقوق الإنسان والعهود العالمية التي تصون المعتقد الديني لأي إنسان من المس والتطاول، كما كان واجباً أن نحرك الدعاوى في الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الأخرى، لسن التشريعات وإطلاق العهود الملزمة والداعية إلى صون المقدسات الدينية من عبث العابثين.
كل هذه الأنشطة - وبعضها حصل بالفعل - كانت ستعطي للعالم صورة جيدة عن المسلمين، الذين هم، على عكس ما يروَّج عنهم في وسائل إعلام الغرب وسياسات اليمين المحافظ في الولايات المتحدة الأميركية، قادرون على فهم روح العصر، ومخاطبة العالم بالرأي في قضايا الرأي، وبالرسوم والكلمات، حينما يكون الهجوم على معتقدهم بالرسوم والكلمات، وليس بالدم والنار أو بسلاح البترول في مواجهة ما يعتقد الغرب أنه «ريشة رسام».
لكن المحظور وقع، فهؤلاء في الخارج كانوا يريدون أن نُخرج أسوأ ما فينا أمام عدسات العالم وأقلامه المسنونة، وأولئك في الداخل، عن غفلة أو ضيق نظر، رأوا فرصة سانحة للتغرير بنا، وإلهائنا عن قضايانا الملحة من جهة، والتشفّي بالغرب، الذي سأل مرات ملحاً عن حقوقنا وكرامتنا والديموقراطية التي حُرمنا منها.
وبين هذا وذاك، فعلت «الميديا» فعلتها، وخرج المهيّجون والمخططون والباحثون عن ميدان لنزال وهمي يثبتون فيه قدرتهم على الفعل، بعدما يئس العجز نفسه من عجزهم. فقد خرجت التظاهرات بعد شهور أربعة كاملة من نشر الرسوم لأول مرة، وعبر المتظاهرون بالغضب والنار عن مشاعرهم تجاه رسول الإسلام (ص)؛ في مساحة امتدت في أربع قارات، حيث أحرقت سفارات، وقُتل متظاهرون ورجال أمن، واحُتجز موظفون، وقُوطعت البضائع الدنماركية، وطُبعت الشعارات، ولُصقت على القمصان والحوائط، وأُقيمت المنتديات والتظاهرات وحلقات التناطح واستديوهات التحليل.
ويبدو أن الهبّة حققت أغراضها وفق توقيتها والهدف منها؛ فخبا الموضوع حتى كاد يتلاشى. لكن اليمين المحافظ اليوم يحتاج إلى براهين جديدة على حاجة الولايات المتحدة إلى رئيس جمهوري قوي، يبني على السياسة الصارمة التي تبناها جورج دبليو بوش تجاه المسلمين والعرب، كما أن الأوضاع في غزة والعراق باتت مأساوية، بحيث يمكن أن ينتبه الجمهور العربي والإسلامي إليها، ومن جهة أخرى، يبدو أن أولئك بالداخل أيضاً يحتاجون إلى هذا التوحد الجامع ضد الغرب، الذي يضغط بطلباته التي لا تنتهي سعياً إلى الحصول على تنازلات أو التوجه نحو الديموقراطية، وهم غير ملومين إن تركوا الناس يعبرون عن أنبل ما يملكون (مشاعرهم الإيمانية)، وإن أعطوا للغرب صورة عما يمكن أن يحدث إذا تُرك لهؤلاء زمام الأمور.
اتفق الحليفان على أن إعادة نشر الرسوم المسيئة في 17 صحيفة أخرى تحت زعم الانتصار لحرية التعبير، سيحقق الهدف المنشود؛ إذ سنخرج جميعاً في حملة تكرس أسوأ الانطباعات عنّا، وسنهدد الرسام بالقتل أو نقتله، ونقتل أو نخطف غربيين، ونحرق سفارات وشوارع وسيارات، وننحر ما تيسر من رهائن، ويشتهر «الفنان» الدنماركي ويُمنح الجوائز، وتتعزز نظرية اليمين المحافظ، وتفقد الدنمارك مدخلاتها من تجارة الجبنة في الشرق الأوسط، فيما نظل نحن كما كنا وكما نريد أن نكون... أدوات تافهة، ترقص منتشية، فيما تُقاد إلى حتفها.
* كاتب مصري