الدولارات والكساد
قد ينجح اقتصاد العالم في تفادي كارثة محتملة أخرى، بيد أن كل هذا قد يكون مجرد أمنيات، ذلك أن عجز الحساب الجاري الأميركي، الذي مازال ضخماً، من شأنه أن يضمن استمرار الدولار في الهبوط.
إن انخفاض الدولار يشكل مصدراً لمحنة عميقة أصابت مؤشرات الأداء الكلي للاقتصاد العالمي، والسؤال الآن هو إلى أي مدى قد تتفاقم هذه المحنة. تُـرى هل أصبح اقتصاد العالم في خطر؟ثمة احتمالان لا ثالث لهما. إذا ما توقع المدخرون والمستثمرون العالميون استمرار تراجع قيمة الدولار، فسوف يتحولون عن هذه العملة إلى غيرها، إلا إذا تم تعويضهم على النحو اللائق عن احتفاظهم بأموالهم في الولايات المتحدة وأصولها، الأمر الذي يعني ضمناً اتساع الهوة بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأسعار الفائدة الأجنبية، وهذا يعني ارتفاع تكاليف رأس المال في الولايات المتحدة إلى عنان السماء، وبالتالي تثبيط الرغبة في الاستثمار وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي مع هبوط قيمة الأصول الرئيسية لدى الأسر الأميركية، وهي مساكنهم، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.
وقد يؤدي الركود الناتج عن هذا إلى تفاقم حال التشاؤم والمزيد من انحسار معدلات الإنفاق، وبدورهما يؤديان إلى تصاعد حدة دورة الهبوط، وإذا ما أصاب الركود الولايات المتحدة فلن تتمكن من الاستمرار في الاضطلاع بدورها باعتبارها الملاذ الأخير كأكبر مستورد عالمي، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتشار الركود في بقية أنحاء العالم. إن العالم الذي يتوقع فيه الجميع هبوط الدولار هو عالم يمر بأزمة اقتصادية.أما العالم الذي أصبح فيه هبوط الدولار أمراً واقعاً، فهو في الحقيقة عالم يمر بمأزق اقتصادي وليس أزمة اقتصادية، وإذا ما كان الدولار قد هبط بالفعل وإذا لم يتوقع له أحد المزيد من الهبوط، فلن يكون هناك سبب لتعويض المدخرين والمستثمرين العالميين عن الاحتفاظ بأصول الولايات المتحدة.بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فهذا السيناريو يتيح عدداً من الفرص: فالدولار قد يرتفع في نهاية المطاف؛ فضلاً عن ذلك فسوف تكون أسعار الفائدة في الولايات المتحدة عند مستوياتها الطبيعية؛ ولن تنخفض قيمة الأصول على نحو مفرط؛ ولن يتأثر الإنفاق الاستثماري بفعل الاضطرابات المالية.قد تحدث الاضطرابات بطبيعة الحال: فحين تنخفض مستويات الأجور في الولايات المتحدة بسبب ضعف الدولار، يصبح التصدير إلى أميركا صعباً، وفي هذه الحال لابد أن تعتمد الدول الأخرى على مصادر أخرى للطلب من أجل الحفاظ على معدلات التشغيل الكامل للعمالة، وقد تضطر الحكومة إلى دعم النظام المالي إذا ما أدت التغيرات التي طرأت على أسعار الأصول، والتي أضعفت الدولار، إلى انهيار المقرضين المحبين للمجازفة أو المتهورين. بيد أن حلول هذه المشاكل لابد أن تكون متاحة وميسرة. ولكن في المقابل سنجد أن ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى عنان السماء، نتيجة للتوقعات العامة باستمرار الدولار في الهبوط بصورة حادة، يفرض مشكلة عصية على الحل فيما يتصل بمؤشرات الأداء الكلي للاقتصاد.ولكن حتى الآن لا توجد إشارات تؤكد أن المدخرين والمستثمرين العالميين يتوقعون استمرار الدولار في الهبوط. ذلك أن الفجوة الضخمة بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأسعار الفائدة الأجنبية على القروض الطويلة الأمد، التي كان من المفترض أن تنشأ نتيجة للتوقعات بهبوط الدولار وأن تؤشر إلى المزيد من الهبوط، لا وجود لها في الوقت الراهن. فضلاً عن ذلك فما زالت الـ 65 مليار دولار اللازمة شهرياً لتمويل عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة مستمرة في التدفق إلى الداخل، وعلى هذا فقد ينجح اقتصاد العالم في تفادي كارثة محتملة أخرى.بيد أن كل هذا قد يكون مجرد أمنيات، ذلك أن عجز الحساب الجاري الأميركي، الذي ما زال ضخماً، من شأنه أن يضمن استمرار الدولار في الهبوط، وحتى مع هذا، فإن المستثمرين الماليين الدوليين والمضاربين العالميين مازالوا غافلين عن منطق الأداء الكلي للاقتصاد، الذي يؤكد أن العجز الضخم في الحساب الجاري يشير إلى المبالغة في تقدير قيمة العملات.قد يكون هذا محبطاً على نحو ما: فنحن خبراء الاقتصاد نعتقد أن الناس أذكياء بالدرجة الكافية التي تسمح لهم بتفهم موقفهم وملاحقة مصالحهم الخاصة. إلا أن المستثمر التقليدي في الأصول الدولارية سواء كان فرداً ثرياً، أو صندوق معاشات تقاعد، أو بنكاً مركزياً لم يتخذ الخطوات اللازمة لحماية نفسه من المزيد من انخفاض الدولار، وهو أمر مرجح في المستقبل القريب.في هذه الحال قد تتحول الأنباء السيئة في نظر خبراء الاقتصاد إلى أنباء طيبة بالنسبة لاقتصاد العالم: فربما كان ما نواجهه الآن مجرد فصل من فصول أزمة مالية تمر بها الولايات المتحدة، وليس ارتفاعاً هائلاً في أسعار الفائدة على القروض الطويلة الأجل أو كساداً. إلا أن عجز خبراء الاقتصاد عن تفسير ما يحدث لا يبرر ألا نكون شاكرين راضين.* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»