كائنات انتخابية!!
شتان ما بين الانتخابات والديموقراطية، فليست الانتخابات إلا جزءاً مهماً من الديموقراطية، فكم ابتعدنا منذ ذلك الوقت عن مبادئ أسّسها الدستور ككرامة الإنسان والمساواة وتكافؤ الفرص والتعددية واحترام الرأي الآخر وفصل السلطات وحرية التعبير، وتحولنا بقصد أو من دون قصد إلى ما يشبه «الكائنات» الانتخابية.
يبدو أن شهر يناير كان موعداً لأيام خالدة في صناعة مضامين المشاركة السياسية في الكويت، ففي صبيحة يوم الثالث والعشرين من يناير من عام 1963 توجه الكويتيون إلى انتخاب أول مجلس أمة في الكويت، وقد تنافس في تلك الانتخابات 205 مرشحين مقسمين على عشر دوائر انتخابية بواقع خمسة مقاعد لكل دائرة، وكان عدد الناخبين المسجلين حينها 16889 ناخباً، إلا أنه لم يتم الإفصاح حتى هذه اللحظة عن عدد المقترعين الذين قاموا بالتصويت فعلاً.وقد جاءت تلك الانتخابات تتويجاً لمخاض سياسي طويل، وتواصلاً مع تجارب سابقة في المشاركة السياسية لم يكتب لها النجاح والاستمرار، فمفهوم الانتخابات لم يكن جديداً في سياق التطور السياسي الكويتي ومحاولات النخب السياسية نقل العلاقة بين الحاكم والمحكوم من الصيغة العشائرية التقليدية إلى صيغة أكثر مؤسسية.وبالتالي فإن الانتخابات الأولى لمجلس الأمة عام 1963، لم تكن نبتاً شيطانياً، هبط علينا من السماء، هكذا، بل ظهرت في تلك السياق محاولات تأسيس مجلس الشورى عام 1921 (وإن لم يكن مجلساً منتخباً) ثم انتخاب المجلس البلدي عام 1932، ثم انتخاب المجلس التشريعي عامي 1938 و 1939، ثم انتخابات المجالس المتخصصة كالمعارف والأوقاف والبلدية عام 1951، وانتخابات عام 1954 ثم 1957 ثم البدء في الحديث عن إعداد دستور البلاد عام 1959 ثم الاستقلال فالدستور فالمجلس التأسيسي، فانتخابات مجلس الأمة، وقد كان واضحاً أن تلك المحاولات التي كانت تدفع بها النخب السياسية يتم التعامل معها بمرونة نسبية من قبل الحاكم والأسرة في إطار من قواعد مبادئ الحكم المشترك الذي تأسست بموجبه الكويت. وعلى الرغم من كل هذا الزخم السياسي الدافع نحو مزيد من المؤسسية في المشاركة السياسية، فإن مفهوم المجالس المنتخبة عانى الكثير من التعثر وعدم الاستقرار، بسبب الخلافات داخل أوساط الأسرة الحاكمة حول مبدأ وجود المجالس بحد ذاته من جهة، ودرجة تعارضه مع الصلاحيات الممنوحة لأفراد الأسرة من جهة أخرى.ولم تكن انتخاباتنا تلك استثناءً، حيث جرى تزويرها عام 1967 والانقلاب على الدستور عامي 1976 و 1986، ومع ذلك فإن تلك الانتخابات كانت مختلفة إلى حد بعيد، فقد أسست للعهد الدستوري وأدواته، ووضعت المعايير للقادم من الأمور. انتخابات 1963 كانت عملية بسيطة أثارت أجواء تفاؤلية ملحوظة، ولم يكن هناك بذخ وإعلانات، كما لم يكن لكل مواطن ديوانية، ولم يكن الذين يشاركون في تلك الانتخابات يعلمون أنهم سيواجهون تحديات جمة وقاصمة للظهر كما سيتضح، وأن تلك التحديات ستحرف التجربة الديموقراطية الوليدة وتحيلها ربما إلى انتخابات فقط، وشتان ما بين الانتخابات والديموقراطية، فليست الانتخابات إلا جزءاً مهماً من الديموقراطية، فكم ابتعدنا منذ ذلك الوقت عن مبادئ أسسها الدستور ككرامة الإنسان والمساواة وتكافؤ الفرص والتعددية واحترام الرأي الآخر وفصل السلطات وحرية التعبير، وتحولنا بقصد أو من دون قصد إلى ما يشبه «الكائنات» الانتخابية، تنتخب لأجل الانتخاب فقط، وتم تشويه الدستور بقوانين ولوائح منظمة مناقضة للدستور!!وها نحن نتذكر الانتخابات الأولى التي جرت آنذاك هل لنا أن نتساءل عما تبقى من المبادئ التي سعى إليها واضعو الدستور من الآباء والأجداد؟ فلنلتفت حولنا عسى أن نعطي تلك المبادئ فرصة.* * *في الحادثة الأخيرة التي تم فيها إنزال طائرة الخطوط البريطانية إنزالاً اضطرارياً في مطار هيثرو بلندن وصفت الصحف البريطانية الطيار بأنه بطل، أما المفارقة فقد كانت في اسمه الحقيقي وهو (جون كاوارد) يعني بالإنكليزية الجبان، فهو بطل اسمه جبان، فكم لدينا من الأوصاف والأسماء التي لا تعكس حقيقتها، فلنتأمل.