تتناول هذه الحلقة قتال السوفييت في جلال آباد وخوست، إذ ظهرت في تلك الفترة انقسامات بين الإسلاميين، بينما وردت شهادات عدة تهاجم قصور تنظيم «القاعدة» في معارك أفغانستان. كما تشير الحلقة الى «النهج التكفيري» الذي ظهر بين صفوف الإسلاميين، وتعطي صورة عن طبيعة العلاقة التي كانت بينهم في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.
كما هو معروف جيداً، وُلد تنظيم «القاعدة» نتيجة لانشقاق في القيادة. وبرغم أنهما شاركا في تأسيس «مكتب الخدمات» (والمعروف كذلك باسم مكتب الخدمات الأفغاني)، الذي كان يقدم الدعم اللوجستي إلى المتطوعين العرب، فبحلول نهاية الصراع ضد السوفييت في أفغانستان، تضاربت وجهات نظر كل من عبدالله عزام وأسامة بن لادن بشأن العديد من الأمور، ليس أقلها الاتجاه المستقبلي للجهاد. وعندما سار تنظيم «القاعدة» في طريقه الخاص تحت قيادة بن لادن، لم تتحسن الأمور على الإطلاق. وكما لاحظ الكاتب لورانس رايت، «منح إنشاء تنظيم القاعدة الأفغان العرب شيئاً آخر يحاربون من أجله». تم التنازع بشأن كل مشروع ظهر في البيئة الثقافية القليلة الرواد، وأي رأس ارتفع فوق الحشود كان بمنزلة هدف. أصبح الجهاد المستمر في أفغانستان فكرة مهيمنة في حرب الكلام والأفكار التي تم خوضها في مساجد بيشاور. وحتى مكتب الخدمات «الموقر» تمّ الافتراء عليه باعتباره واجهة لوكالة الاستخبارات المركزية، واتُّهم عزام بأنه عميل أميركي. أبو الوليد جاء أول الشهود في وثائق «هارموني» حول التحديات التي واجهت تماسك قيادة «القاعدة» خلال هذه الفترة المبكرة، من خلال تحليل للحالة الأفغانية في عام 1989 قام به «الجهادي» المصري مصطفى حامد، المعروف كذلك باسم أبو الوليد، وكتبه بعد عام 1996. إن أهم ميزة منفردة لأبي الوليد، كما تظهر في وثائق «هارموني» هي براغماتيته. وعلى الرغم من أنه مسلم متدين فإنه يشارك إخوانَه في تنظيم «القاعدة» الخطوطَ العامة العريضة للعقيدة الجهادية السلفية، التي ترى في الأساس أن هناك حاجة إلى تجديد البنى السياسية المستمدة من الشريعة في العالم الإسلامي ووجود حاجة مصاحبة إلى محاربة أي تدخل محسوس في هذا الإحياء، وقد تعامل أبو الوليد مع الجهاد باعتباره، قبل كل شيء، كفاحاً عسكرياً. وبالنسبة إلى أبي الوليد، كان المتطلب الأول للاستراتيجية الجهادية هو أن تكون «فعالة»، لا أن تكون نقية فكرياً أو فعالة بشكل رمزي. وقد أدى هذا الميل إلى مقاربة واقعية للجهاد إلى وقوع أبي الوليد في نزاعات متكررة على مر السنين مع أعضاء قيادة «القاعدة» الذين انتهجوا خطاً أكثر أيديولوجية أو أكثر نظرية. ولأنه حارب فترة طويلة خلال الجهاد ضد السوفييت، تعرّف أبو الوليد خلال الثمانينيات على العديد من المجاهدين العرب شخصياً، وخصوصاً مواطنيه المصريين، الذين سيحتلون لاحقا أدواراً أساسية في تنظيم «القاعدة». ومن بين هؤلاء، كان أقرب ما يكون إلى أبي حفص المصري (المعروف باسم محمد عاطف)، وهو أحد المؤسسين المشاركين لتنظيم «القاعدة» وربما كان الصوت الرئيسي لما وصفه أبو الوليد وغيره باسم «الجناح المتشدد» في التاريخ المبكر لتنظيم «القاعدة». معركة جلال آباد في أوائل ربيع 1989، انضم بن لادن إلى أتباعه من المجاهدين العرب في المحاولة الكارثية لمهاجمة المدينة الأفغانية الشرقية جلال آباد والاستيلاء عليها، وهو هجوم تم تنظيمه من قبل مكتب الاستخبارات الباكستاني (ISI)، بمساعدة في ما يبدو من وكالة الاستخبارات المركزية. وبرغم أن الخسائر كانت هائلة، ولم تكن هناك سوى دلائل طفيفة على التقدم في أوائل أيام الحصار، فإن الشبكة الدولية لنشرات أخبار المجاهدين، والوعاظ المتجولين، ومنظمات الدعم، أعلنت أن المعركة توشك أن تنتهي بتحقق النصر للمجاهدين، مما أثار أكبر تدفق للمتطوعين الأجانب إلى أفغانستان منذ انسحاب الاتحاد السوفييتي. نشر عبدالله عزام المؤثر أيضا تقارير تمجد «الشهداء» الشجعان الذين اندفعوا إلى «تحرير» المدينة من حكومة نجيب الله الشيوعية، مما عجّل التدافع إلى جبهة جلال آباد. وفي وسط هذا الاندفاع إلى دعم الهجوم، كان هناك فريق صغير من المجاهدين البارزين، منهم أبو الوليد وأبو مصعب السوري، يحاول دق أجراس الخطر وإقناع المقاتلين العرب بألا ينضموا إلى مثل هذا المهمة المتهورة الحمقاء وغير المُعد لها جيداً، والتي شبهها أبو الوليد، في مقالات كتبها للصحف والمجلات الجهادية في ذلك الوقت، بمجموعة من الأطفال الذين سيقوا إلى حتفهم بواسطة الزمّار. كان أبو الوليد يدرك جيدا أن خطة الهجوم قد صيغت ظاهرياً بدعم من مكتب الاستخبارات الباكستاني ووكالة الاستخبارات المركزية، كما حذّر من أن المجاهدين كان يتم التلاعب بهم بوحشية لخدمة القوى الجيو- سياسية التي ليس لها أية صلة بالجهاد. غضب أبو الوليد غضباً شديداً من عزام لكتابة تصويرات حماسية لـ«الشهداء الشجعان»، لكنه صب جام غضبه على أسامة بن لادن وزعمائه العسكريين، أبي حفص وأبي عبيدة، اللذين ظهرا خلال سير المعركة كما لو كانا القائدين العامين للقوات العربية. وبعد أن قُتل عدد من زملائه المجاهدين القدامى في الهجوم الفاشل، أعلن أبو الوليد قائلاً «لو كنت أنا المسؤول، لحاكمت أبا عبدالله (أسامة بن لادن)، وأبا عبيدة وأبا حفص، محاكمة عسكرية ولأصدرت عليهم حكماً بالإعدام». وبرغم أنهما لم يكونا قد التقيا في تلك الفترة، فقد وصل خبر تعليقاته إلى بن لادن، الذي غضب غضباً شديداً، الأمر الذي لا يدعو إلى الاستغراب. وعند نقطة ما، اجتمع أبو الوليد مع أبي حفص وأبي عبيدة وطلب منهما نقل تقييم مكتوب عن مهزلة جلال آباد إلى بن لادن؛ فعاد أبو عبيدة بالأخبار قائلا «يتمنى أبو عبدالله أن يمزّق التقرير ويبعثره في مهب الريح، إذ إن رجاله كانوا يحققون الانتصارات». تشكّل تقييم أبو الوليد لقيادة «القاعدة» خلال هذه التجربة، وتمثل في أن «عقليتهم المحدودة ستأتي دائما بنتائج كارثية على عملياتهم»، وازداد هذا التقييم عمقاً خلال السنوات التالية، عندما بدأ العمل عن قرب أكثر، وارتفع في النهاية، إلى أعلى المناصب في «القاعدة». حصار خوست في عام 1998، عندما كان أبو الوليد عضواً في مجلس شورى «القاعدة»، وهو اللجنة الشاملة لكبار الزعماء الذين يقدمون المشورة إلى بن لادن، وتنبثق عنها لجان فرعية ذات تخصصات مختلفة، قام بتحرير سلسلة طويلة من المذكرات والملاحظات التي كتبها في عام 1990 خلال حصار مدينة خوست، وهي سلسلة مهمة من المعارك التي بدأت خلال الحرب ضد السوفييت واستمرت حتى الحرب الأهلية الأفغانية التي دارت رحاها ما بين عامي 1989-1992 بين القادة العسكريين للمجاهدين ونظام نجيب الله. وبعد أن حوصرت لأكثر من ثماني سنوات، سقطت هذه المدينة الأفغانية الشرقية أخيراً بين يدي المجاهدين في ربيع عام 1991. كان المجاهدون الأفغان تحت قيادة جلال الدين حقاني، وهو قائد ماهر عمل بدعم من الحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار حتى عام 1995، قبل أن ينقل ولاءه إلى حركة «طالبان». حارب بعض من يطلق عليهم «الأفغان العرب»، أو المجاهدون المتطوعون من البلدان العربية، حول خوست تحت قيادة حقاني خلال هذه الفترة، بينما شكّل العديد منهم مجموعاتهم الخاصة، كانت أكبرها تحت قيادة أبي الحارث الأردني. عُرف حقاني على نحو واسع كأحد أكثر قادة المجاهدين نفوذاً في أفغانستان، كما كان مدعوماً بشدة بالمال والأسلحة من قبل وكالتي الاستخبارات السعودية والباكستانية؛ وكان ضباط وكالة الاستخبارات المركزية العاملين في إسلام آباد في ذلك الوقت ينظرون إلى حقاني على أنه «ربما كان القائد البشتوني الميداني الأكثر إثارة للإعجاب في الحرب». كان حقاني أيضا مقرباً جداً من أسامة بن لادن - كما هي الحال حتى اليوم، وخلال تلك الفترة قام بن لادن ببناء مجمعه السكني في كهوف ميران شاه، الواقعة في شمال وزيرستان، على أراض كانت في ذلك الوقت (ولا تزال حتى الآن) واقعة تحت سيطرة حقاني. عمل أبو الوليد كقائد ميداني وداعية لحقاني الذي كان شديد الإعجاب به، على الرغم من أنه عمل مع جماعة أبي الحارث في أوقات مختلفة أيضاً. تتضح براغماتية أبي الوليد في بداية مذكراته عن خوست، إذ كتب أنه اختار العمل مع حقاني لأنه شعر أن الأخير هو الأقرب من بين القادة العسكريين للمجاهدين إلى أن ينهي بشكل حاسم الأزمة العسكرية والقتال الداخلي الذي تلا الانسحاب السوفييتي، وإلى أن يضع حداً في النهاية للحكم الشيوعي في أفغانستان. ومن خلال العمل مع حقاني في معركة خوست، بدأ أبو الوليد علاقته النشيطة مع «القاعدة» وقيادتها العليا. التكفير في أوائل عام 1990، بعد اجتماع مع زميله القديم أبي حفص، دُعي أبو الوليد إلى إلقاء المحاضرات في اثنين من معسكرات التدريب التابعة لـ«القاعدة»: معسكر «جهاد وال» في خوست وآخر عبر الحدود في ميران شاه، في شمال وزيرستان. في «جهاد وال» حاضر عن الحالة السياسية في أفغانستان مع المنظّر الجهادي أبي مصعب السوري، الذي احتل بدوره لاحقاً منصباً في مجلس شورى «القاعدة». كان صفهما بمنزلة كارثة، حسب أبو الوليد، فالجمهور، الذي تضمن «جميع الكوادر المهمة لتنظيم (القاعدة)، بمن فيهم أسامة بن لادن»، انقسم إلى فئات متجادلة وبدأ بتكفير الأطراف المختلفة. وفي حين أنه شك في أن شجبهم التكفيري قد امتد ليمسّه شخصياً، كان أبو الوليد مقتنعاً بأن العداوة التي بات بعض أعضاء الجناح المتشدد لـ«القاعدة» يضمرها له في هذا الوقت لعبت دوراً في المشكلات الأخرى التي واجهها مع التنظيم في وقت لاحق من ذلك العام. عجز «القاعدة» خلال ذلك الاجتماع والاجتماعات اللاحقة مع أبي حفص، عرض أبو الوليد خطة لتنظيم هجوم صاروخي مدة شهر متواصل على مهبط خوست البالغ الأهمية، وهي منطقة لهبوط الطائرات بطول ثلاثة كيلومترات كانت تمثل جزءاً أساسياً من خط الإمداد السوفييتي، وبقيت كذلك خلال الحرب الأهلية ضد نجيب الله. ولأنها محاطة على الأرض من قبل المجاهدين، كانت المدينة تعتمد على المطار مصدرا وحيدا للإمدادات، وبالتالي فهو بالغ الأهمية بالنسبة إلى قدرتها على مقاومة الحصار. وافق تنظيم «القاعدة» على دعم خطة أبي الوليد، الذي سيقوم بدور القائد الميداني للعملية، لكن التنظيم -كما ذكر بتفصيل شديد وفي مداخل مذكراته اليومية خلال العملية- أثبت أنه معاون غير كفؤ تماماً، مما أجبر أبا الوليد طوال الهجوم على المطار على الاعتماد على علاقته القديمة مع حقاني وأبي الحارث للحصول على الإمدادات اللازمة والدعم اللوجستي المطلوب. استمر هجوم أبي الوليد على مطار خوست من 16 أغسطس إلى 11 سبتمبر 1990. وقبل أسبوع واحد فقط من بداية العملية، وأثناء إقامة شبكة المنصات التي تطلق الصواريخ على نقاط مختلفة من المهبط، تلقى أبو الوليد رسالة من أبي حفص نيابة عن أسامة بن لادن تطلب منه إرسال جميع رجاله الذين تعود أصولهم إلى بلدان الخليج العربي إلى بيشاور. كان بن لادن بصدد تجميع جيش من مجاهدي الخليج العربي، وكان يأمل إرساله إلى المملكة العربية السعودية لحمايتها من جيش صدام حسين، الذي غزا الكويت في بداية أغسطس. تلقى جميع مجاهدي الخليج أمراً بالامتثال، باستثناء أولئك الذين يعملون مدربين في معسكرات «القاعدة»؛ وبالإضافة إلى ذلك، طلب بن لادن أن يعاد إلى بيشاور منظار تحديد المسافات الذي كان قد أعطي لأبي الوليد من أجل العملية. وبعد أن اكتشف أن تنظيم «القاعدة» ليس كريما «مطلقاً» في دعم مشروع المطار مع رجاله، وأنه «لم يقدم الدعم الإداري الكافي»، أثار هذا الطلب غضب أبي الوليد وأوشك على قطع علاقته بذلك التنظيم. وبدلا من التضحية بالعملية، أرسل المنظار والرجال، على الرغم من أنه «اندهش مرة أخرى من قيادة (القاعدة)، لقيامهم بسحب كوادرهم من عملية بمثل هذه الأهمية الحيوية، في حين أنهم لم يستدعوا مدرباً واحداً من معسكراتهم العسكرية، المليئة بالسياح الشبان من السعودية واليمن». مقتطفات من كتاب «ثرثرة فوق سقف العالم» الذي كتبه «أبو الوليد» وكشفت عنه دراسة «مشروع هارموني» • كانت أحاديثنا وجدانية وتلقائية، لذا رد أبو حفص على اقتراحٍ قائلا: إن تنفيذ ذلك الاقتراح يعني أن يطعن البعض قائلاً إننا نساعدك على تكوين تنظيم خاص بك (!!) وأضاف أن أبا عبدالله (أسامة بن لادن) قد تغير رأيه فيك بعد الدورة التي أعطيتها في ميرانشاه ثم بعد الأوراق التي نشرتها في بيشاور عن معركة جلال آباد، كانت المرة الأولى التي أعلم فيها أن هناك خشية من أن أكون «صاحب تنظيم» وهي فكرة قمئة لم تخطر لي ببال، ولكنني سمعتها بعد ذلك عدة مرات، أما غضب أبي عبدالله مني إلى الآن فكان أمراً غريباً، فقد كنت أظنها أحداثاً قد انتهت. • كنت أرى الأخطار تزيد على المجاهدين العرب، بينما هؤلاء منغمسون في أنماط عبثية من النشاطات الجهادية، وأفكار مشوشة، وأحيانا خطيرة، في مجالات الفقه أو الحركة السياسية. وكان التكاثر الانشطاري (الأميبي) قد بلغ مداه بين التجمعات في بيشاور، التي أخذ الطابع الوطني فيها ذروته رغم كل دعاوى الأممية أو (الأمة) الإسلامية الواحدة. • إن ما يجري في جلال آباد هو جريمة كاملة الاركان تسفك دماء المجاهدين العرب، وكل من يشجع الشباب على المشاركة فيها إنما هو مسؤول عن تلك الدماء والارواح المهدرة، ولو كان الامر بيدي لحاكمت أبا عبدالله، وأبا عبيدة وأبا حفص امام محكمة عسكرية وحكمت عليهم بالاعدام.
دوليات
شروخ في الأساس 2/5
17-01-2008