المعادلة الصحيحة، التي يتعين على الجميع أن يدركها ويتعلم دروسها جيداً، هي أن الشروع في الإصلاح واعتماد الديموقراطية والتوجه نحو التنمية، تضعف فرص التدخل الخارجي «الجراحي» أو الحربي، وتحول دون إعطاء مبررات إضافية «للتدخل» المفروض من الخارج بحجة الإصلاح والديموقراطية، والعكس صحيح أيضا.ً

Ad

شاعت في السنوات الاخيرة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، دعوات كثيرة ومن مصادر مختلفة للاصلاح، ولعل بعضها أحدث تشوشاً والتباساً في المقاصد والأهداف من الإصلاح والجهات الداعية اليه.

الاختلاف لم يتعلق في مضمون الإصلاح وحسب، بل في آلياته ووسائله، ناهيكم عن صيرورته، فهل هو حاجة وضرورة، أم ترف ورغبة؟ هل النخبة هي المعنية بالإصلاح ؟ أم الجموع الواسعة من السكان، التي تعاني الفقر وشح الحريات ونقص التعليم والتهميش؟

هل هو إصلاح مفروض من الخارج أم ضرورة للتطور الداخلي؟ وهل تريد القوى الخارجية فرض الإصلاح لحساب الداخل، الذي لا شك أنه بحاجة شديدة إليه، أم إنه بالضد منه ولأجندتها الخاصة؟ وهل يوجد نموذج واحد للاصلاح، أم هناك نماذج مختلفة تبعاً لدرجة تطور كل مجتمع، أي مراعاة خصوصيته ضمن المشترك الانساني؟

في السنوات الأخيرة، شاعت أيضاً مصطلحات من قبيل

«الإصلاح القسري والإصلاح الطوعي» أو «الإصلاح العنفي والإصلاح السلمي» أو «الإصلاح الثوري والإصلاح التدرجي» أو

«الإصلاح الفوقي والإصلاح التحتي» أو « الإصلاح المنفلت والإصلاح المنضبط» أو «الإصلاح الداخلي والإصلاح الخارجي». وكأن تلك الثانويات تشكل، في حد ذاتها، برنامجاً للقطيعة ومحتوى للمشاركة، في جدلية تحمل التناقض والتكامل، خصوصاً إذا افترضنا الاصلاح مصلحة عليا لكل الشعب والأمة، ولا يعني فريقاً سياسياً أو فئة دون غيرها، ولذلك لا يمكن التذرع بالخصوصية، للتملص من الاستحقاقات العالمية والآليات الدولية للاصلاح، وفي الوقت نفسه، لا ينبغي التجاوز عليها بحجة العولمة والكونية.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أننا عندما نتحدث عن الإصلاح الديموقراطي، فلا نقصد بذلك الحكومات وحدها، لأنها مهما حاولت وسعت، برغم أنها المسؤولة الأساسية، فإنها لا يمكن أن تتصدى لهذه المهمة الطويلة والمعقدة بمفردها فقط. الحكومات بحاجة إلى شراكات حقيقية من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية والمهنية، للاضطلاع بدورها في عملية الإصلاح الديموقراطي، وهي مسؤولة أيضاً عن نجاح أو إخفاق عملية الإصلاح، وإن كانت بدرجات أدنى، سواءً في علاقاتها مع مؤسسات الدولة، أو علاقاتها البينية، أو في أنظمتها وممارساتها الداخلية.

ولأن الإصلاح شامل، فإنه تعبير، في اللحظة التاريخية، عن مسار كوني وسياق عالمي وتاريخي، لا يمكن عزل هذا البلد أو تلك الدولة عنه، خصوصاً في ظل العولمة وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتحول العالم إلى «قرية كونية» والتفاعل والتداخل والتشابك بين أجزائه المختلفة، فالتلفزيون والكومبيوتر والإنترنت، وتكنولوجيا المعلومات، أصبحت وسائل تدخل البيوت دون استئذان أو ترخيص وتؤثر في العقول والاتجاهات والأنظمة والمجتمعات على نحو عاصف!

ولهذا السبب أيضاً لا يمكن اليوم، التضحية بقضية الإصلاح أو مقايضة الديموقراطية والتنمية تحت أي حجة، لأن ذلك سيؤدي إلى تبرير وتسويغ وجود واستمرار النظم المستبدة والمعادية للديموقراطية والإصلاح، مثلما لا ينبغي بحجة الإصلاح ارتهان الإرادة الوطنية وإخضاع المصالح الوطنية والقومية للقوى الخارجية والمشاريع الأجنبية، أي قبول منطق الاستتباع والهيمنة والتعويل عليها.

إن المعادلة الصحيحة، التي يتعين على الجميع أن يدركها و يتعلم دروسها جيداً، هي أن الشروع في الإصلاح واعتماد الديموقراطية والتوجه نحو التنمي، تضعف فرص التداخل الخارجي «الجراحي» أو الحربي، وتحول دون إعطاء مبررات إضافية «للتدخل» المفروض من الخارج بحجة الإصلاح والديموقراطية، والعكس صحيح أيضاً.

ولا يمكن اختطاف التضحيات الجسام ولسنوات طويلة للمطالبة بالإصلاح من جانب قوى ومنظمات وشخصيات إصلاحية فكرية وثقافية وسياسية منذ آواخر القرن التاسع عشر، لمجرد أن بعض القوى الخارجية دعت اليه، حتى وإن كانت هذه الدعوة لأهدافها الخاصة، فالإصلاح ليس مؤامرة مريبة أو تواطؤاً مشبوهاً، بل هو حاجة ضرورية، خصوصاً بعد أن وصلت الكثير من أوضاعنا العربية الى طريق مسدود.

ويمكن أن يلعب المجتمع المدني دوره كقوة اقتراح وليس قوة احتجاج، أي قوة تشاركية ومسؤولة، بدلاً من اعتباره قوة اعتراض أو ممانعة فحسب، وذلك من خلال تقديمه مشاريع قوانين أو لوائح الى البرلمان أو أنظمة وقواعد عمل أو برامج خاصة، كما يمكنه الإسهام في التدريب والتأهيل.

إن لم يأت الإصلاح تدريجيا سلمياً تراكمياً، سيأتي عاصفاً ومدوّياً.

 

كاتب ومفكر عراقي