كانت كوبا تبدو عن بُعد جنة الله على الأرض... وكان «الرفيق» فيدل لا يبخل على الثوار الأشاوس وأبنائهم بـ«سيجار الكوهيبا» الفاخر الذي يُزرع ويُقلع ويُحضّر بعرق الكوبيين وعذاباتهم، والآن فإن هذه «الإصلاحات» التي تبعث على الضحك حتى الاستلقاء على الظهر تؤكد أن كوبا خسرت من عمرها خمسين عاماً.الإصلاحات التي أعلنها رئيس كوبا الجديد راؤول كاسترو، الذي خلف شقيقه فيدل قبل فترة، تبعث على الإحباط وخيبة الأمل وتظهر أن نحو نصف قرن من حكم الثورة «المستمرة» قد أدخل هذه الجزيرة، التي كانت تعتبر إحدى حدائق الولايات المتحدة الخلفية، القرن الحادي والعشرين بينما هي لم تتأهل بعد لدخول القرن الذي سبقه، وهذا يؤكد أن «الماركسية-اللينية» التي تغنّى بها الثوريون الحالمون ربما تكون جميلة ومغرية كنظرية لكنها من حيث التطبيق لم تنتج إلا أنظمة دكتاتورية واستبدادية متخلفة.
لقد بدأ راؤول كاسترو عهده الميمون، الذي يعد استكمالاً لعهد شقيقه الذي استمر نحو نصف قرن وترك كوبا بلد السُّكر والسيجار محطمة على هذا النحو، بالإصلاحات التالية... وأي إصلاحات؟
* السماح للكوبيين بالإقامة في الفنادق الكوبية التي كانت محرمة عليهم والتي كانت مخصصة للسياح القادمين من الخارج ولـ«الرفاق» الذين يأتون من دول المنظومة الاشتراكية للاحتفال بذكرى انتصار خليج الخنازير ولإظهار الإعجاب بالنظام الكاستروي الذي بدأ ثورة ترتدي «بيريه» تشي غيفارا وبقي ثورة لنحو خمسة عقود من الأعوام متلاحقة.
* السماح لهم، أي للكوبيين، باستئجار السيارات التي كان استئجارها محرماً على أهل البلد ويقتصر على السياح القادمين من الخارج وعلى الزوار الأجانب والبعثات الدبلوماسية.
* إصدار توجيهات لوزارة التجارة الداخلية تجيز بيع الحواسيب وأجهزة (دي.في.دي) وأفران مايكروويف وأدوات منـزلية أخرى لـ«العامة» التي كان تسويقها يخضع لرقابة شديدة... لماذا؟! لا أحد يعرف!!
* رفع الحظر المفروض على الهواتف النقالة لجهة عدم بيعها لـ«العامة» ولكن مع الكثير من الاشتراطات التي تجعل المكالمات عبر هذه الهواتف تخضع للرقابة الأمنية الصارمة.
فهل هذا معقول؟! وهل أن هذه هي حقيقة الحلم الوردي الذي كان يتغنّى به الشبان الثوريون في العالم كله؟
عندما قاد فيدل كاسترو الثوار الحالمين، الذين جاء بعضهم من دول أميركا اللاتينية وبينهم تشي غيفارا، كان الشبان المتحمسون ومن بينهم الصحافي الفرنسي اليساري ريجيس دوبريه ينتظرون تجربة رائدة تختلف عن تجربة الاتحاد السوفييتي البيروقراطية الفاشلة وعن تجارب الدول الاشتراكية الأخرى المنسوخة نسخاً عن التجربة السوفييتية... لقد كان الحلم كبيراً وجميلاً لكن ها هي نتائج نصف قرنٍ تأتي مخيبة للآمال.
كان الرفيق فيدل نجماً عالمياً تلاحقه كاميرات المصوريين في كل الأمكنة، وكان يعتبر الشوكة المؤلمة في الخاصرة الأميركية، ولقد تعززت صورته كثائر أممي لا مثيل له بعد أزمة الصواريخ في بدايات ستينيات القرن الماضي، وبعد أن أصبح يرسل دباباته ومغاويره إلى القتال إلى جانب ثوار أنغولا وبوليفيا، وعندما كان يعتلي المنابر العالمية وهو يرتدي لباسه العسكري المميز ليشتم الإمبريالية العالمية وليعلن تضامنه، كما يفعل رئيس فانزويلا هوغو تشافيز الآن، مع الذين كان يعتبرهم ضمانة مستقبل الثورة العالمية مثل صدام حسين وهَيْلا مريام وبول بوت.
كانت هذه الجزيرة الكاريبية تبدو عن بُعد جنة الله على الأرض... وكان «الرفيق» فيدل لا يبخل على الثوار الأشاوس وأبنائهم بـ«سيجار الكوهيبا» الفاخر الذي يُزرع ويُقلع ويُحضّر بعرق الكوبيين وعذاباتهم، والآن فإن هذه «الإصلاحات» التي تبعث على الضحك حتى الاستلقاء على الظهر تؤكد أن كوبا خسرت من عمرها خمسين عاماً، وأنها متخلفة عن مسيرة التاريخ ربما بمقدار قرن بأكمله!
لسنوات قليلة خلت كانت الأنظمة الثورية العربية، التي ظن البسطاء والمغفلون والحالمون والجهلة أنها ستحرر فلسطين، وأنها ستوحد الوطن العربي وستُغرق شعوبها بالعز والسعادة، تعتبر راديوهات الـ«إف.إم» أدوات هدامة وكانت تحرم الآلات الطابعة والناسخة، وبالطبع فإنها جريمة ما بعدها جريمة أن يخترق جهاز «فاكس» الحدود المحصّنة بالعسس والمخابرات وأن يضبط مواطن بجيبه هاتف نقال... لكن ومع ذلك فإنها تصر على أنها دولٌ تقدمية!! بينما الدول الأخرى دول رجعية!!
* كاتب وسياسي أردني