أهم عبرة يجب الخروج بها من هذه الكارثة هي أنه علينا ألا نصدق «فرسان الكلام» وألا نثق بهم، فهؤلاء الذين يطلون عبر شاشات الفضائيات بأعناق طويلة ويملؤون الدنيا صخباً قومياً، وزمجرات عروبية، ربما تكون خلفهم قصص مخزية كهذه القصص. إذا كان صحيحاً أن أشرف مروان، الذي انتحر أو أغتيل قبل أيام في لندن، هو الجاسوس «بابل» الذي تحدثت عنه الصحف الإسرائيلية كثيراً، مستندة الى الوثائق السرية التي أفرجت عنها إسرائيل أخيراً بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً عليها، فإن هذه كارثة يجب التوقف عندها طويلاً لأن فيها عبراً كثيرة لا تُعدُّ ولا تحصى!
وهذا الكارثة التي يجب التوقف عندها طويلاً هي أن أشرف مروان لم يكن شخصاً عادياً، فهو زوج ابنة عبدالناصر، وكان مدير مكتبه وموضع أسراره، وانتقل الى العمل مع السادات، وغدا أقرب المقربين إليه ولذلك فإن اصطياده من قبل الإسرائيليين لا يمكن تقديره بثمن، بل هو أكبر إنجاز حققته المخابرات الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل.
كان وصول إيلي كوهين في بدايات عقد ستينيات القرن الماضي الى مواقع القرار في سورية يعتبر إنجازاً لـ «الموساد الإسرائيلي»، ولكن الفرق بين هذا الجاسوس الذي كانت نهايته الإعدام بعد اكتشاف أمره من قبل جهاز الـ «كي. جي. بي» السوفييتي وبين أشرف مروان هو أن هذا الأخير كان أحد رجالات مصر المرموقين وكان مستودع أسرار عبدالناصر، وبعد ذلك السادات في فترة حساسة ودقيقة بالنسبة الى الصراع العربي – الإسرائيلي شهدت حربين كبيرتين، الأولى هي حرب يونيو عام 1967، والثانية، هي حرب أكتوبر عام 1973.
لقد استطاع إيلي كوهين، الذي لا تزال إسرائيل تطالب برفاته رغم مرور قرابة أربعين عاماً على إعدامه، أن يصل الى كبار المسؤولين السوريين الذين كانوا يشكلون قمة هرم المسؤولية في النظام السوري القائم في ذلك الحين وأن يقيم روابط صداقة حميمة معهم باعتباره «مغترباً سورياً عاد الى وطنه ويريد أن يخدمه»!! قام بسلسلة زيارات إلى هضبة الجولان التي كانت تُعْتبـَرُ «خط ماجينو»، والتي كان يعتبرها الإسرائيليون نقطة ضعفهم العسكرية الاستراتيجية.
لكن أشرف مروان، ابن العائلة المصرية الثرية المعروفة وابن الضابط الكبير في القوات المسلحة، وصهر عبدالناصر ورئيس مكتبه وأقرب مستشاري الرئيس أنور السادات إليه والمسؤول عن التصنيع الحربي أيضاً والذي يتردد الآن أنه كان على صلة بالمخابرات المصرية، شيء آخر ولذلك وإذا صحَّ أنه هو الجاسوس الإسرائيلي الذي كان يحمل الاسم الحركي « بابل» والذي أوصل للإسرائيليين أسرار حرب أكتوبر قبل أن تقع فإنه ما كان يجب أن يُقتل هكذا، إذا كان مقتله ليس عملية انتحار، والسبب أنه مستودع أسرار لا تقدر بأي ثمن بالنسبة الى الأمن القومي المصري والعربي.
كان أشرف مروان، بحكم مصاهرته للرئيس جمال عبدالناصر وبحكم المواقع الحساسة التي احتلها، فوق الشبهات فهو الشاب القومي المتحمس والمنطلق كالسهم في فضاء العروبة وهذا هو الانطباع ذاته الذي كان إيلي كوهين أحاط به بنفسه قبل أن تكشف المخابــرات السوفييتية الـ « كي .جي .بي» أمره.
وهنا فإن أهم عبرة يجب الخروج بها من هذه الكارثة هو أنه علينا ألا نصدق «فرسان الكلام» وألا نثق بهم، فهؤلاء الذين يطلون عبر شاشات الفضائيات بأعناق طويلة، ويملأون الدنيا صخباً قومياً وزمجرات عروبية، ربما تكون خلفهم قصص مخزية كهذه القصص، وربما هُمْ يقومون بما يقومون به لإخفاء حقيقة حقائقهم ولتسويق أنفسهم على الناس البسطاء الذين لا يعرفون أن وراء الأكمة ما وراءها... فهل هو موسم الجواسيس؟ وهل ستكشف الأيام المقبلة أسراراً أشد هولاً من هذه الأسرار؟!
كاتب وسياسي أردني