يبقى كتاب «كنت شيوعيا»، وثيقة مهمة لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها، خاصة أن الفصول الأخيرة منه تبتعد عن موضوعات الشجار والفضح، لتعرض لنا موقف السياب الشاعر من تيارات الأدب العالمي الأصيل، حتى لو كانت مغايرة إيديولوجياً للفكر الشيوعي الذي كان يعتنقه. من ضمن ما حواه كتاب «كنت شيوعيا» الذي ضم مقالات الشاعر بدر شاكر السياب المنشورة في جريدة «الحرية» البغدادية عام 1959، هناك واقعتان يرويهما الشاعر تشيران إلى الآثار السلبية التي يتركها العمل الحزبي على العلاقات بين أبناء الأسرة الواحدة. وقد جرت إحدى هاتين الواقعتين بين الشاعر شخصياً وشقيقه الأصغر مصطفى، وهي مما يثير العجب والضحك والألم معا.
فبعد نشر الحلقات الأولى من مقالات السياب التي نقد فيها الحزب الشيوعي نقداً عنيفاً، تطَّوع ـ أو طُوِّع ـ شقيقه الأصغر مصطفى لكتابة مقالة في جريدة أخرى، سخر فيها من شقيقه الأكبر، واتهمه بالجور والكذب والتحامل على الحزب. وبلغ في مقالته حد التنابز بلغة طفولية فجة، تتكئ على صورة الشاعر في طفولته عندما كان يبكي كلما قال له الأطفال «بكى، بكى، بكى»!
وعلى الرغم من أن الشاعر قد أبدى أساه لوصول الأمور إلى هذا الحد المريع الذي يرغمه على خوض مواجهة مع شقيقه الأصغر، وعلى الرغم من منطقية رده على شقيقه، فإنه لم يلبث أن تخلى عن وقاره، وراح يردح لشقيقه على الموجة نفسها من التنابز النزق الذي يطبع أي مشاجرة بين طفلين.
يقول السياب: «طلعت علينا صحيفة وطنية! بمقال كتبه أخي مصطفى شاكر السياب، عنوانه «أتّهم أخي»، وقد قرأت ذلك المقال وأنا مشفق على كاتبه، أخي الأصغر، وقد وجدته ـ شأن كتابات الشيوعيين ـ مليئاً بالمغالطات. وتساءلت في نفسي: أيليق بي أن أرد على تلميذ في الصف الرابع الثانوي، لو أنني لم أُفصل من عملي لكنت اليوم أستاذه؟ ثم وجدت أن هذا التلميذ الفاشل ليس شخصا اعتياديا، فهناك رابطة تربطني به لا سبيل إلى ذكرانها أو تناسيها، وهل هناك رابطة أقوى من رابطة الدم، عند غير الشيوعيين على الأقل؟
قال الكويتب بعد مقدمات أغرقها بدموعه، وملأها بارتعاشات يديه، شأن الكتابات التي يكتبها المراهقون المتأثرون بـ«عبرات المنفلوطي» المغرقة في دموع العشاق والبائسين، إنه وجد نفسه في معركة حتمية فرضتها عليه، وعليه أن يخوضها إلى جانب القوى الوطنية!!
ثم يقول الكاتب حفظه الله ووفقه حين يتقدم إلى الامتحان للحصول على شهادة الصف الخامس الثانوي: «فلستُ بحاجة إلى فضح ما جاء به كاتب المقال (يعني أخاه الشاعر) من أكاذيب وحوادث نمقها بخيال شاعري، فالحوادث التي ذكرها وجعل من نفسه شاهد عيان لها -إن صحت هذه الافتراءات- قد حدثت في أعوام لم يكن فيها الكاتب غير طفل يبكي متى ما ذكر الأطفال كلمة «بكى، بكى، بكى»، وأظنه لا ينكر ذلك».
ويتوقف الشاعر هنا، ليتساءل بحرقة يسندها منطق الأمور: «أرأيت العبقرية الشيوعية؟ إني لا أتذكر، لأنني لم أكن غير طفل صغير، غير أن الرفيق مصطفى -الذي يصغرني بأربعة أعوام- يتذكر جيدا طبعا أنني كنت طفلا أبكي متى ما ذكر الأطفال كلمة «بكى، بكى، بكى»، حيا الله الذاكرة الشيوعية. لا يعجب أحد لهذه المعجزة، فالشيوعيون -كما دلت الحوادث- عباقرة وذوو ذاكرات قوية... فقد أصدروا ذات يوم منشورا باركوا فيه إسقاط اليهود لجنسيتهم العراقية ونزوحهم إلى إسرائيل للخلاص من الاضطهاد، ثم ما لبثوا بعد بضعة أيام -وكأن الناس نسوا منشورهم الأول- أن أصدروا منشورا آخر شجبوا فيه الهجرة إلى إسرائيل، وقالوا إن على اليهود البقاء في أماكنهم وخوض النضال إلى جانب القوى الوطنية الشريفة»!
وعند هذه النقطة، يبدأ العد التنازلي، لدى السياب، لانطلاق صاروخ النزق الطفولي العابر للرصانة، فإذا به يعيّر أخاه بمثل ما عيره به وبالطريقة نفسها:
«إن كاتب المقال وضع أمام عينيه مرآة وراح ينقل منها تفاصيل صورته المنعكسة عليها، ثم ينسبها إلي. فمن الذي أسرف في اللذة؟ إنني لا أريد أن أذكر ما يعرفه أخ عن أخيه، فليس من الصالح أن ننشر على الناس غسيلنا القذر.
يقول الكويتب عني: «حتى وجد في أحضان الحركة الوطنية الأمّ التي افتقدها، واليد التي تنتعشه من الشعور بالنقص الذي برز في نفسه خلال حياة الطفولة».
من هو المُبتلى بالشعور بالنقص أيها «الكشكول»، وهذا هو اللقب الذي كنا نطلقه عليه يوم كان طفلا وكان يبكي لسماعه أشد البكاء.
لقد ماتت أمك وأنت طفل رضيع عليل، فنشأت محروما من عطف الأم، تبكي لكل لوم -لا نهرة- يوجه إليك مفكراً بأنك ما كنت لتلقى هذا اللوم لو كانت أمك موجودة.
وكان رأسك ولايزال -وإن أخفاه الشعر- طويلاً، فكنا نعيرك بذلك حتى تبكي. وكان الخدم والفلاحون وأهل القرية جميعا ينادونك بهذا اللقب المحبب إليهم وهو «أبو راس الطويل»... فأيٌّ هو الذي يمكن أن يُبتلى بالشعور بالنقص؟ الأخ الأكبر الذي ليس أعور ولا أعرج ولا مصابا بأي عاهة... أم الطفل الصغير العليل الذي ماتت أمه، والمبتلى برأس طويل؟!
لقد كنت أنا طفلا صغيرا، فليس معقولاً، كما تزعم أن أتذكر الحزب اللاديني وأعماله، أما أنت الذي تصغرني بسنوات أربع فتتذكره جيداً، لأنك قلت متحدثا عن هذه الأشياء «فهذا ما سأتطرق إليه في المستقبل ليرى القارئ الكريم الفرق بين ادعاء مسموم وقول بريء»... إنني أنصحك بأن تنصرف إلى الدراسة، لتستطيع المشاركة في امتحان البكالوريا للصف الخامس الثانوي والنجاح فيه... يا مصحح التاريخ. ولك مني ألف سلام»!
أمام هذا الفاصل النضالي المدهش بين الأخوين، ضحكت قليلا، وتحسرت كثيرا، غير أن الواقعة الثانية التي ذكرها السياب في إحدى مقالاته، عن مفارقة أخرى بين شقيقين شيوعيين قد دفعت حسرتي بعيدا، وتركتني أضحك على راحتي... ومازلت أضحك.
ففي حديثه عن الظروف والأسباب التي قادت إلى القبض على الرفيق (فهد) زعيم الحزب الشيوعي العراقي، روى السياب قصتين عن القيادي الشيوعي (حسين الشبيبي)، والقصة الأولى هي التي تعنينا في هذا المجال.
يقول السياب: «في عام 1945، على ما أتذكر، أصدر حسين الشبيبي كتابا أعتقد أنه عن الجبهة الوطنية الموحدة. وكان حسين عضوا في الحزب الشيوعي العراقي، المفروض فيه أنه حزب سري، والمفروض في قادته أن يتكتموا ولا يخلفوا وراءهم أثرا يكشف عنهم... من خطّ أو صورة. ولكنّ الرفيق حسين يريد أن يشتهر، يريد أن يعرفه الناس... يريد أن يسير في شارع الرشيد فيقابله العشرات من الناس بالتحايا. إن أحسن طريقة للتعريف بشخصه هي أن ينشر صورته على الملأ، حتى إذا مر بهم عرفوه وسلموا عليه، وقالوا «هذا هو المناضل العظيم».
وهكذا كان، فنشر صورته الكريمة على غلاف ذلك الكتاب، وكان أخوه «محمد علي» الذي استطاع حسين أن يبلشفه، يشبهه كل الشبه... وحين افتضح أمر محمد علي وارتكب بعض ما يوجب إلقاء القبض عليه، راحت الشرطة تطارده في كل أنحاء العراق. ولم يكن لدى الشرطة من دليل يسترشدون به لمعرفة محمد علي إذا رأوه، غير صورة أخيه حسين المنشورة في ذلك الكتاب «الوطني»، فكنت ترى أفراد الشرطة السرية والعلنية يحملون بأيديهم نسخا من الكتاب المشؤوم، ناظرين إلى الصورة التي في غلافه وإلى وجوه العابرين»!
وها نحن قد رأينا، من خلال هذه القصة الواقعية، أن التنافر في الولاء الحزبي بين الإخوة، ليس أكثر شؤما من توافقهم فيه!
ويبقى كتاب «كنت شيوعيا»، برغم كل شيء، وثيقة مهمة لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها، خاصة أن الفصول الأخيرة منه تبتعد عن موضوعات الشجار والفضح، لتعرض لنا موقف السياب الشاعر من تيارات الأدب العالمي الأصيل، حتى لو كانت مغايرة إيديولوجياً للفكر الشيوعي الذي كان يعتنقه. وهو في هذا السياق يقدم لنا، ضمن موضوعات كثيرة قراءة واسعة وجميلة لرواية (1984) للكاتب الإنكليزي الشهير جورج أورويل.
* شاعر عراقي، تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية