حكومات تختار معارضيها
إن الحياة السياسية العربية لن تتطور طالما استمرأ من يجلسون على كراسي الحكم اختيار معارضيهم، كما أن المعارضة العربية لن تحظى بشرف هذه الصفة مادامت ارتضت أن تكون مجرد طلاءات مزركشة لجدران قديمة، وبالتالي لن يتمكن الجانبان من تحصين أوطاننا ضد التدخل الخارجي السافر في شؤونها.
صناعة الخصوم السياسيين المستأنسين باتت بضاعة تتمتع الأنظمة العربية بميزة نسبية في إنتاجها، بعد أن كفت عن تصنيعها أغلب دول العالم الثالث، والتفتت إلى تحديث حقيقي لنظمها السياسية، ففتحت الأبواب والنوافذ للمعارضين، ليتمكنوا ويكبروا بإرادتهم الحرة، ويكسبوا أي أرض اجتماعية بوسع أقدامهم أن تصلها، ويحصدوا أي رصيد جماهيري، بإمكان قدرتهم على التعبئة والتجنيد والحشد أن تبلغه.هذه البضائع، التي لا يمكن تسويقها في أي مكان، وبات من الضروري إعدام ما تبقى منها وتفكيك مصانعها، طالما أسهمت في خسائر جمة للعرب، يدفعون الآن ثمنها من استقلالهم وكرامتهم الوطنية، ومن تاريخهم ومستقبلهم على حد سواء. فلو أن المعارضة العربية موصولة بالشارع، حين تتجه إلى القاع، وتستطيع الوصول إلى كراسي الحكم حين تتجه إلى القمة، ما كان بإمكان أميركا ولا غيرها أن تدس أنفها بتلك الطريقة الفجة، وتصور نفسها، على حساب العرب، في موقع «رسول الحرية»، مع أنها لا ترمي في خاتمة المطاف إلا إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية، وهو الاتجاه الذي دفع واشنطن إلى أن تضع يدها أحيانا في يد أنظمة مستبدة في مختلف أرجاء العالم، فلما استقر في يقين صانعي القرار بالولايات المتحدة أن هناك ارتباطا بين الاستبداد والتطرف والإرهاب الذي نال من مصالح أميركا وأمنها، راحت تطالب بالديموقراطية. ولو أن المعارضة العربية تمردت منذ وقت مبكر على الدور الذي حددته لها السلطة، وناضلت بإصرار في سبيل الحصول حتى على الحقوق القليلة التي تكفلها لها الدساتير، لكانت هي الحماية الحقيقية ليس للنظم السياسية القائمة فحسب، بل أيضا للدولة والمجتمع في العالم العربي برمته. لكن هذا التمرد وذلك النضال لم يأتِ أبدا، أو كان خافتا ومظهريا إلى الحد الذي لم ينتج أي دفعة قوية إلى الأمام على درب الديموقراطية. والحقيقة التي بقيت ناصعة، ولا تحتاج إلى جهد كثير لإثباتها، هي أن أغلب الحكومات العربية إما تقوم على تدبير وجود خصومها السياسيين وترسم أدوارهم، أو تسمح لمن يعي منهم حدوده، ويقبل أن يعمل تحت سقف الخطوط الحمراء الكثيرة، بأن يولد ويستمر ليسهم في مساعدة من بأيديهم مقاليد الأمور على استيفاء الإجراءات الشكلية للنظام السياسي العصري، من دون أن يطرأ أي تحسن نوعي على المضمون، اللهم إلا من زاوية الهوامش الصغيرة للحركة السياسية، أو الخطوات المحسوبة، التي تبدو من ناحية المظهر نوعا من التحسن الجذري، لكنها -جوهراً- لا تعدو أن تكون «قفزة في المكان» أو «سيرا في المحل»، لاسيما بعد أن يتم تفريغها من مضمونها، عبر حزمة من القوانين والإجراءات، التي يسنها أو يرتبها رجال النظام الحاكم من الساسة وخبراء القانون. من هنا نجد أن أغلب الدول العربية موزعة، من حيث اختيار الحكومات معارضيها، بين نمطين، الأول هو وجود حزب حاكم يفرض حضوره، مستخدماً كل مقدرات الدولة لمصلحته، يوزعها على من يشاء من أتباع أو متعاطفين، ثم يمنح جزءا منها لأحزاب «ديكورية» تلعب دور المعارضة، بدعوى أن هذا واجب عليه حتى يساعد هذه الأحزاب في أداء دورها السياسي، مع أن الأفضل والأصح هو أن يسمح لهذه الأحزاب أن تكّون مواردها المستقلة مع الأيام، وبما يوفر لها القاعدة الاقتصادية اللازمة للعمل السياسي. والأدهى والأمّر أن الجزء الأكبر من هذه الأموال، إن لم تكن كلها، تذهب إلى جيوب القائمين على هذه الأحزاب، أو قلة منهم، ومن ثم تضمن السلطة ولاءهم، أو تكسر ما تبقى لديهم من قدرة على التحدي والنزال السياسي القائم على المنافسة، والإصرار على انتزاع ما للمعارض من حق في أن يصل إلى كراسي الحكم يوماً. في الوقت نفسه تبرم السلطة عقداً ضمنياً مع هذه الأحزاب، على أن تحافظ لها على الطريق الضيق، الذي تسير فيه، بإغلاق الباب أمام القوى الاجتماعية الحقيقية الساعية إلى تكوين أحزاب قوية منافسة. بل قد تتحالف الحكومة والمعارضة الشكلية ضد هذه القوى، لأن بإمكان الأخيرة، إن حصلت على شرعية العمل السياسي وتوافر لها المناخ المواتي لتعبئة الجماهير وتجنيدها لمصلحة أفكار وبرامج تخالف تلك التي تطرحها السلطة، أن تزيح من في الحكم، وكذلك من يتقمص دور المعارض من طريقها. أما النمط الثاني فهو قيام ائتلاف بين الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، تكون فيه الأخيرة أشبه بالزوائد اللحمية المتناثرة على جسد ضخم، تتحرك معه أينما سار، ولا تضيره كثيرا إن تخلص منها بجراحة ناجعة. وهنا لا يكون في البلاد غير رأي واحد، واتجاه واحد، مع الاحتفاظ بمساحة ضيقة، من الحوار الداخلي المكتوم بين الطرفين، يخرج بعده كلاهما ليزعم أن هناك اختلافا في وجهات النظر بشأن المصالح الوطنية، أو نقاشا ثرياً بشأن القضايا الداخلية والخارجية يجري على قدم وساق بين «حكومة ومعارضة».وإذا كان النمط الأول لا يمنع الأحزاب الشكلية من النقد اللفظي اللطيف لمن هم في الحكم، اكتفاء بحق النباح، فإن الثاني يقلص مساحة هذا النقد إلى حدودها الدنيا، بل إنه في بعض الأحيان يجعلها تكاد تتلاشى، خصوصاً إذا تعلق الأمر بواحدة من القضايا الحساسة التي تمس مصير السلطة ومسلكها.ولم تكتف هذه الحكومات العربية بهذا الحد من الجور على الحياة السياسية، بل تتمادى في غيها إلى درجة أنها تسعى الآن إلى تكرار اللعبة نفسها، وبالأدوات ذاتها، مع قوى المجتمع المدني، متناسية أو متجاهلة أنه من المفروض أن يكون قطاعاً غير رسمي، أو «أهلياً»، فإذا تم إلحاقه بالعمل الرسمي، من قريب أو بعيد، خرج من صف «المجتمع المدني» إلى سلك الإدارة الحكومية، في أدنى مستوياتها. وتبدأ هذه المساعي بسن القوانين التي تؤمم النقابات العمالية والمهنية، وتصادر على دور الجمعيات الأهلية، بمختلف أنشطتها، وتسيطر على المنتديات الثقافية والعلمية، لتنتهي إلى رمي المنظمات الحقوقية بالخيانة أو العمالة، مستغلة في هذا أن قلة من القائمين على بعضها، فسدة أو مرتزقة أو مغرضين.إن الحياة السياسية العربية لن تتطور طالما استمرأ من يجلسون على كراسي الحكم اختيار معارضيهم، كما أن المعارضة العربية لن تحظى بشرف هذه الصفة مادامت ارتضت أن تكون مجرد طلاءات مزركشة لجدران قديمة. وبالتالي لن يتمكن الجانبان من تحصين أوطاننا ضد التدخل الخارجي السافر في شؤونها، لأنهما يسمحان باستمرار هذا التحالف غير المقدس بنشوء أشكال من استقواء جماعات وأفراد بالخارج، لاسيما إن ازدادت الأجواء قتامة، فهرب المعارضون إلى ما وراء البحار، وحلموا أن يعودوا على ظهور الدبابات مع المحتلين. وما حدث في العراق ليس منا ببعيد، وليس بوسع أي من القائمين على السلطة في العالم العربي أن ينساه أو يتجاهله. * كاتب وباحث مصري