الثراء وجنونه

نشر في 07-03-2008
آخر تحديث 07-03-2008 | 00:00
 محمد سليمان في روايته «يوميات نائب في الأرياف» يحدثنا توفيق الحكيم عن ذلك الشيخ الذي أحيل إليه متهماً بسرقة الذرة من الحقول وعندما سأله الحكيم لماذا لم تشتر الذرة؟ قال الرجل: «لم أر النقود منذ زمن بعيد ولا أعرف إن كان القرش مازال مخروما من وسطه أم سدوه».

حتى الخمسينيات والستينيات لم يكن للنقود حضور بارز أو مؤثر في القرى، فقد كنا نعيش على ما تنتجه حقولنا وكانت النقود ضرورية فقط لشراء الملابس والإنفاق على التعليم، وكان جني وبيع محصول القطن يتكفل بذلك. لكن النقود في السنوات الأخيرة صارت وطناً كما أقول في قصيدة لي بسبب التحولات التي هزت المجتمع وغيرت وجهه وقيمه وشكل حركته، وأشاعت القلق والخوف من المستقبل والاغتراب ومن ثم السعي بكل السبل لدخول عالم الأثرياء وانعكس ذلك كله على حركة الشارع ولغته والمفردات الجديدة التي ينحتها الناس للتعبير عن تطلعاتهم وقيم الواقع الجديد.

وقد استوقفتني قبل أعوام كلمة «ملين» وهي الفعل المشتق من «المليون» وملين الرجل أي أثرى وصار من أصحاب الملايين وشيوع الكلمة ودورانها على الألسنة كان ومازال دالاً على ذلك السعي المحموم من أجل الثراء السريع والسهل في مجتمع صار للمال فيه سلطة وسطوة لاحدود لهما ولأثريائه الحق في القيادة والتسلط ورسم السياسات.

هذا السعى المحموم إلى الإثراء كان سبب شيوع النهب والفساد والاختلاس والرشوة والفرار إلى الخارج بأموال البنوك في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد موجات الغلاء المتلاحقة التى عصفت بأمن واستقرار أغلبية المواطنين، ودفعت بعضهم إلى الانحراف أو المغامرة سعياً إلى الخروج من دوائر الفقر أو إلى المزيد من الثراء لتأمين مستقبل أسرهم، وفي الفترة الأخيرة صار هذا السعي همّاً عاماً وراية تظلل الجميع الفقراء الحالمين بالتحرر من أسر الفقر والأثرياء التواقين إلى مضاعفة ثرواتهم. وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الإضرابات والاعتصامات واحتجاجات الأطباء -المهندسين-القضاة-الصحافيين وأساتذة الجامعات مطالبين برفع الأجور لصد الجوع عن أسرهم تنفجر ثلاث قضايا محورها السعي المحموم لمضاعفة الثروة: أولها فرار أحد المحتالين بعدة مليارات إلى الخارج جمعها من مئات المودعين الأثرياء لتوظيفها، وهي القضية التي انشغلت بها أجهزة الإعلام وجهات التحقيق في الأيام الأخيرة وأطلقت عليها الصحف «ريان أبناء الوزراء» ويلاحظ أن معظم المودعين من الأثرياء، وبعضهم أودع عشرات الملايين من الجنيهات ويلاحظ أيضا أن معظم هؤلاء المودعين من طبقة الصفوة «أساتذة جامعات -مديري شركات -ضباط كبار- أبناء وزراء». وهم يعرفون أن شركات توظيف الأموال محظورة قانونا وأنهم يخاطرون بأموالهم ومدخراتهم لكن الجشع والسعي إلى الكسب السريع والسهل دفعهم إلى المغامرة وإيداع الملايين خاصة بعد أن أغراهم المحتال الفار بفوائد خرافية على المبالغ المودعة تجاوزت %10 شهرياً، أي تمكنهم من مضاعفة ملايينهم في أقل من عام واحد. وتتعلق القضية الأخرى بمصانع وشركات الأسمنت التي باعتها الدولة وبملاكها الجدد الذين أحالهم النائب العام إلى المحكمة متهمين بالاحتكار ومضاعفة أسعار الأسمنت بلا مبرر سوى الجشع، ومن المدهش أن يعود بعض وزراء الحكومة التي باعت المصانع والشركات إلى الحديث عن ضرورة إنشاء مصانع أخرى للأسمنت تمتلكها الدولة لكي تستطيع التأثير على أسعاره وإنهاء الاحتكار، والغريب أن أحداً من المسؤولين لم يسع حتى الآن إلى طرح قضية الحديد وإحالة امبراطوره عضو لجنة السياسات بالحزب الحاكم إلى النائب العام بنفس التهمة، واكتفى المسؤولون في الفترة الأخيرة بحث الناس على الاستغناء عن الحديد والعودة إلى البناء باستخدام الخشب والحوائط الحاملة كما كان يفعل الآباء والأجداد.

وتتعلق القضية الأخيرة بالنجم عصام الحضري حارس مرمى النادي الأهلي والمنتخب، والذي فاجأ جمهوره وناديه بالفرار إلى سويسرا بحجة تأمين مستقبل أسرته رغم حصوله في العام الأخير على عدة ملايين من الجنيهات من ناديه ومن عائد الإعلانات ومن المنح والمكافآت المصرية والعربية.

الأمن المعيشي يؤرق ويقلق أغلبية المواطنين بسبب التقلبات وموجات الغلاء المتلاحقة التي تفزع الجميع وتدفعهم إلى طلب ثراء لا حدود له يطمئنهم ويوفر لأسرهم الأمن، ومن أجل هذا الثراء المنشود يرحب بعضهم أحياناً بعواصف الفساد والانفلات والفوضى.

* كاتب وشاعر مصري

back to top