جريمة قتل في الكاتدرائية
في أواخر الستينيات شاهدت في بغداد فيلم «بيكيت» للمخرج البريطاني بيتر غلينفيل، عن مسرحية شهيرة للفرنسي جان آنوي، كان الممثلان بيتر أوتول وريتشارد بيرتِن مذهلين في أداء دور البطلين التراجيديين: الملك هنري الثاني ورئيس مستشاريه المقرّب بيكيت.
في لندن قرأت مسرحية تي.أس. اليوت الشعرية «جريمة قتل في الكاتدرائية». وكنت على معرفة عابرة بقصيدة تينيسون قبله بشأن الحدث التراجيدي ذاته. ثم ها أنا أقع على إصدار جديد مصور DVD من (Decca) لأوبرا الإيطالي بيزيتّي (1880-1968)، التي وضعها على نص اليوت عام 1958. كمْ بدا الحدث التراجيدي يرتقي بي، عبر المحاولات الثلاث، سلّمَ الفنون: سينما، شعر درامي، ثم أوبرا، وكأن الأخيرة استجابة لدعوى فاغنر، الذي أراد من الأوبرا أن تتسع لكلّ الفنون. الحدث الذي اعتمدَته الفنونُ الثلاثة تاريخيّ، جرى في إنكلترا مطلع القرن الثاني عشر. كانت علاقة الملك الشاب هنري الثاني بالمقرّب توماس بيكيت صداقةَ مغامرةٍ وملذات، فقد جعله أرفع مستشاريه في الحكم، وحين توفي أرفعُ أساقفة إنكلترا عيّنه آركبيشوباً بعده، طمعاً في أن تصبح الكنيسة طوعََ بنانه، ولكن الأخير ما إن ارتدى ثياب الكهنوت حتى تلبّسته حُلّةُ المسؤول الكهنوتي المقدسة، فوجد نفسه في معارضة متقاطعة مع كل رغائب الملك وطموحاته، حاول الملكُ سبلَ الإقناع أول الأمر، ثم اضطر إلى التهديد والوعيد. وبيكيت لا يلين. بعد منفاه الفرنسي عاد بيكيت إلى مكانه في كانتيربري، عاد وهو يعرف بيقين أنه عائدٌ الى حتفه، يقترب إلى شهادته بخُطا حازمة، وبعد مشهد رموز الإغواء الأربعة، يقبل الفرسان الأربعة بسيوفهم المْشرعة ليقتسموا جريمة قتله، بعدها يقضي الملك هنري الثاني بقية حياته في جلد الذات ندامةً. لحظة دراما حقيقية لم تفت اليوت، وهو في أوج مأزقه الروحي وسط مرحلة حضارية وهنت فيها الروح، وأوج مأزقه العقلي في مفترق طريقي الشك واليقين، ولذلك استجاب سريعاً لدعوة مهرجان كنتيربري عام 1935، في الكتابة عن أرفع شهيد في تاريخها، لقد وجد في الحدث رائحة الدراما اليونانية، وتمثّل الكورسَ رقيباً، ثم وجد فيه حياة تاريخية لرجل حقيقي، إلى جانب هذا السعي الإرادي للشهادة، تماماً كما استشهد المسيحُ طوعاً، لقد كشف أليوت عن رغبة شخصية عميقة للاستسلام لإرادة الله، ووجد في هذا الاستسلام خلاصاً. في شعر أليوت نجد هذه الرحلة المضنية واضحة بدءاً من قصيدة «الرجال الجوف»، مروراً بقصيدة «أربعاء الرماد»، وانتهاءً بـ«الرباعيات الأربع». في إيطاليا كان الموسيقي بيزيتّي موزعاً بين هاجس ديني عميق في تأليفه الأوبرالي، وبين الميل إلى مذهب المتعة في موسيقاه الأخرى، ولذا وجد في نص اليوت الدرامي مادة جاهزة لموسيقاه. كان بيزيتّي مؤلفاً ومعلماً، تنقل في معاهد بارما، فلورنسا، ميلان، وروما. وبالرغم من أنه بدأ طليعياً مع تيارات الموسيقى التجريبية، فإنه سرعان ما عاد إلى مجرى تيار الموروث الأعمق، ولقد وجد صوته سليماً تماماً في معالجته هذه للمأزق الروحي. الرائع في هذه الأوبرا أن بيزيتي استخدم نص اليوت كاملاً، ولذا كانت متعةُ الإصغاء مزدوجة، أنت تقرأ شعراً ناضجاً، تتابع موضوعاً غاية في العمق، تحلّق مع موسيقى محتدمة بفعلِ كثافة المأزق الروحي، ومن يخلو من ظلال مأزق روحي؟ تنعمُ بصوت واحدٍ من أبرز الأصوات الخفيضة (باص)، هو الإيطالي رايموندي، ثم تسمع وترى العرض وقد قُدم داخل أبهاء كاتدرائية حقيقية. عادة ما تُقدم الأوبرات في حلّة نص شعري، ولكنها لا تتطلب نصاً رفيع المستوى وجدياً دائماً، حين جاء الألماني فاغنر فرض ضرورةَ النص الشعري الجدي والعميق، وصار عُرفاً. ولقد استلم التعبيريون منه هذه الرسالة، بعد مرحلته الرومانتيكية، وأدخلوها عنصراً حاسماً في عصرنا الحديث.