آخر وطن: الأغاني المسمومة
هذه الاغاني المسمومة التي اقضّت مضاجعنا، وروّعتنا خلال صحونا، وتلك الاصوات التي «تنبح» في مسامعنا ليل نهار، تركض فاتحة افواهها خلف اذواقنا التي اطلقت سيقانها للريح محاولة الفرار، حاصرت زُرقة بحارنا وخُضرة اشجارنا، اودت بأرواحنا إلى الهلاك.
اختفت - او تكاد - تلك الاغاني المنسوجة من نبض الارواح، ومجدولة بشرايين القلوب، تلك الاغاني التي تعكس الصور الحقيقية لخفقات الحب، وسهر شموعه، وطقس وجده، ودرجة حرارة عشاقه. اغان ٍكانت تعبر بطريقة فنية مذهلة عن كل حالات الحب والصبابة، وحتى تلك الحالات المعقدة والمرتبكة التي يصعب شرحها حتى في الكلام العادي والمباشر، فكيف كانت تلك الاغاني تقولها فنّا؟! كان كلام الاغاني صادقا ويعكس مشاعر حقيقية وأصيلة، وليست عابرة ووقتية، فيأتي التعبير معتّقا بخمرة الاحاسيس وجمرة البوح. تلك كانت اغاني زمان، اما الاغنية المعاصرة فأصبحت كالوجبات السريعة، قد تكون لذيذة، وتملأ المعدة، لكنها مضرة صحيا، عديمة الفائدة، وقد تسبب السرطان! تستمع إلى كلام بعض الاغاني، فيندى جبينك لمعانيها، بعض الكلمات يتضح انها كتبت بأنثى التقاها الكاتب في سهرة حمراء، ولا يتوانى الملحن في تحويل تلك الكلمات الى اغنية يتردد صداها على مسامع اولادنا ونسائنا وقبلها مسامعنا، او اغنية اخرى يطلب فيها كاتبها من احدى الحسناوات (بما معناه) ان تبلّغ حبيبها بأنه سيأخذها منه رغما عن انفه، مع التجاهل التام لرغبة تلك الحسناء ومشيئتها، مما يوحي بأن هذه الحسناء ليست اصلا سوى بائعة هوى! واليك اغنية ثالثة يقول كاتبها مخاطبا الحبيبة بما يشبه العتب (وربما معناه ايضا) انها عادت اليه في الوقت المناسب، لانه كما يقول كاد ان يحب واحدة اخرى تشبهها بسبب غيابها!! اغان ٍكثيرة وعديدة مليئة بالتعبيرات الرخيصة والجافة، والتي تعبر عن مشاعر سطحية، فارغة، اصابها العطب. بل ان اختيار المطربين او المطربات احيانا لاغانيهم يعكس جهلا عميقا من قبله (او قبلها) لما تحتويه الكلمات، كما تعكس عجزهما عن القدرة على التدقيق في ما اذا كان هذا الكلام مناسبا لهما ام لا، كتلك المطربة التي تقول ان حبيبها «حيّاوي» وخجول جدا، حيث انها عندما تنظر اليه وتحدق به يلتفت «خجلا الى الجهة الاخرى، تصوروا!! هي الانثى تحدق به و«تخزّه» بكل جرأة، بينما «فارس» الاحلام يصد، أو يطأطئ رأسه في الارض من شدة الحياء والخجل! انا لا انكر ان الزمن قد تغير، وصور الحب طرأ عليها كثير من التبديل في حياتنا اليومية المعاصرة، فعلى سبيل المثال اصبح الحرمان من التواصل مع الحبيب من قصص الماضي او الحالات النادرة مع وجود ثورة الاتصالات الحديثة والمتنوعة، لكن جوهر الحب الحقيقي لم يتغير، يبقى الحب شعورا عالي القيمة، يشغف الوجدان، ويرفع من قدر المعاني، والفن المبدع هو الذي يعكس ذلك، معتمدا على قدرته على سبر الاغوار النفسية، والتغلغل في ادق تفاصيلها مع قدرته البارعة في التجلي بها إلى سماوات من نور.