إلى أين؟!
الحقيقة أن حكامنا العرب لا يكرهون شيئاً أكثر من الشفافية. من منهم يقبل أن يفصح عن أي تصرف في الأموال ويبين أوجه الصرف والمبررات ولا يقبل العمل الخفي للجان المناقصات، والسحب من المال العام؟ من منهم يقبل أن يُسأل عن أموال ذهبت إلى طرق خفية أو مشاريع وهمية أو تنفيعية؟
مَن قال إن الحكام العرب لا يتابعون ما يجري في العالم ولا يتجاوبون مع متطلبات الحكم الحديث؟ ومن قال إنهم لا يتقبلون التغيير ويكرهون الديموقراطية ومشاركة العالم دعواته للانفتاح والانضمام إلى النظم الديموقراطية؟ لو تتبعنا أحاديث الحكام العرب كلهم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة وإلى يومنا هذا، لوجدناها تنضح بتعابير الالتزام بالديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وغيرها من النغمة التي ترددها الدول الكبرى. ويتبع حب حكامنا للديموقراطية التزامهم بالشفافية ومحاربة الفساد والمحافظة على البيئة والتوجه للتنمية الاقتصادية والبشرية وتحديث القوانين والهياكل الإدارية وغيرها من متطلبات الدولة العصرية. فهل كنا مخطئين بحق حكامنا العرب حين اعتقدنا أنهم يكرهون هذا كله؟الحقيقة الواضحة للعيان أن حكامنا العرب ما زالوا على كرههم للديموقراطية الحقيقية ويدوسون أبسط حقوق الإنسان في كل لحظة ولا يريدون الشفافية الجادة ولا يسعون إلى برامج للتنمية الاقتصادية والبشرية ما لم يكن لهم النصيب الأكبر في عوائدها. حكامنا العرب وجدوا الطريق للتلاعب بالكلام. فما يضرهم لو أعلنوا اتباع الطريق الديموقراطي إذا كان بإمكانهم تزوير الانتخابات أو التلاعب بها أو شراء الضمائر لتغيير نتائجها؟ ما دامت البرلمانات لا ينجح فيها إلا الشخص المقتدر مالياً، فمن يكون أقدر من الحكومة في الصرف على الناس الذين تريدهم؟ هل يستطيع مرشح عادي في ديموقراطية اليوم أن ينجح من دون دعم مادي وأدبي من جيبه أو جيب من يريده في البرلمان؟ طبعاً ليس هناك أقدر من حكوماتنا على التحكم في الأموال وصرفها على من تريد لاستكمال الشكل الديموقراطي. لسنا وحدنا الذين لا ينجح في انتخاباتهم إلا المرشح الموسر، فعلى قمة الديموقراطية الغنية تأتي الولايات المتحدة، وهي اليوم المثال الذي يقتدي به حكام العرب. ففي أميركا لا ينجح إلا من يملك المال حتى لو كانت هناك شروط لجمعها لمصلحة المرشحين، إلا أن الحقيقة أنه لا ينجح أحد من دون أن يصرف المال. ولكن المال هناك يُصرف على الحملة الانتخابية وتنقل المرشح بين مناطق انتخابه وهناك سجلات تعلن مصادر التمويل وأوجه الصرف. ولكن مسألة التمويل عند حكامنا أهدافها مختلفة. فحكامنا، هم الممسكون بدخل الدولة كله، ولا تستطيع أي جهة رقابية أو قضائية محاسبة الحكومة على صرفها. وبالتالي، فإنهم يضمنون لأنفسهم أغلبية نيابية على المقاس دائماً.ثم جاءت دعوات الشفافية! هل تعلمون أن بداية الحديث عن الشفافية في الكويت جاء من جانب الحكومة؟ نعم الحكومة الكويتية هي التي دعت إلى الشفافية. وتسمع النغمة نفسها من بقية الحكام العرب. فجأة أصبحت الكلمة متداولة في اجتماعات الوزارات والحكام والكل يسعى إلى الشفافية والكل يصر على الشفافية، وأن كل شيء يجب أن يكون تحت الشمس. والحقيقة أن الحكام العرب لا يكرهون شيئاً أكثر من الشفافية. من منهم يقبل أن يفصح عن أي تصرف في الأموال ويبين أوجه الصرف والمبررات ولا يقبل العمل الخفي للجان المناقصات، والسحب من المال العام؟ من منهم يقبل أن يُسأل عن أموال ذهبت إلى طرق خفية أو مشاريع وهمية أو تنفيعية؟ لم نجد في الممارسات العامة أي جدية في طرق موضوع الشفافية. هناك دعوات بعضها طيب، أما أغلبها فهو يصب في مصلحة الحكام ومخططاتهم في نشر الدعوة إلى الشفافية وفي تكثيف التعتيم على أي تصرف لها حتى لا يعرف الناس أين تقف الحكومة في وجه سرقة المال العام؟وقد رأينا في الكويت أن بعض النواب الذين طنطنوا لدعوى «من أين لك هذا؟» وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وظهروا بلباس البطولة في المعركة ضد الفساد، أن هؤلاء لم يطرحوا فكرة «من أين لك هذا؟» إلا بعد أن رتبوا أوضاعهم المالية ثم جاؤوا بإعلان استعدادهم للتوقيع على إقرارات «من أين لك هذا؟» بما يملكون.أما عن حقوق الإنسان فحدث ولا حرج. أقوى أجهزة الدول العربية هي أجهزة أمن الدولة أو المخابرات العامة أو سمّها ما شئت. هذه الدول التي تطنطن بحقوق الإنسان ليل نهار، تُقمع الناس ليل نهار وتدوس القوانين كلها لتحمي نفسها من شعوبها. فكم غيبت السجون العربية من بشر لا يعلم أحد شيئا عنهم ويظهرون كما كان حكم صدام في قبور جماعية بعد أن يزول النظام. الاختراع العربي للديموقراطية عبر عنه شاعر شعبي حين قال على لسان رئيس عربي ما معناه: نحن نترك الحرية للناس... ليقولوا ما يشاؤون ونحن نفعل ما نشاء. ديموقراطية الكلام. هل سمعتم بدولة يتبارى المسؤولون فيها في وصف درجة الفساد في أجهزتها ثم لا يفعلون شيئا؟ الشفافية عندهم هي أن يعلنوا عن وجود الفساد أما القضاء على الفساد فتلك قضية أخرى لا علاقة لها بشعار الشفافية.فهل لدينا شك والحال كما نرى في ديموقراطية وشفافية وإنسانية حكامنا الأشاوس؟