لعل أصدق صورة ترسم للوضع في لبنان تلك القصة التي نُقِلت على لسان الزعيم المصري الوطني الكبير سعد زغلول، فالإخوة المصريون مشهورون بالتعبير عن مآسيهم بنكتة، أو قصة هادفة، تزرع البسمة على الوجه، فتصبح متنفساً يساعدهم على تحمّل ما يقاسونه، أما قصة سعد باشا زغلول فقد قيلت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي لتعبّر عن يأس المصريين الجماعي في إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية معاً.

Ad

ففي ذات يوم وصل سعد زغلول إلى منزله متعباً، منهكاً، مهموماً، مقهوراً حتى العظم، ودخل رأساً إلى غرفة نومه، فلحقت به زوجته السيدة صفية لتسأله عن أحواله بعد أن أقلقها منظره. ودار الحوار التالي:

• «ما لك يا باشا. خير إنشالله» (قالت صفية)

• «ما فيش فايدة يا صفية... غطيني وصوّتي»، (أي اصرخي أو ابكي، أو اندبي) رد سعد.

وما يجري في لبنان اليوم يتطلب أكثر مما طلبه سعد زغلول من زوجته، فالمأساة اللبنانية مستمرة فصولاً، وكلٌّ يغني على ليلاه، ولبنان، الذي لم تلتئم جروح الماضي لديه بعد، مُلقى على قارعة الطريق ينزف، وأبناؤه مشغولون بأمورهم الأخرى، يزيدون فتحة شريان الدم النازف بخلافهم واستعدادهم للتقاتل على أمور وسياسات لا تمت إلى شؤونهم الحياتية بأي صلة. هذا في ظاهر الأمر، أما في البواطن فإن الأمور أشدّ وأدهى، وتنذر بهبوب عاصفة لا تبقي ولا تذر، ولقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من موعد العاصفة، بل إننا نقف على مفترق طريق يفصل بين «الجنّة» التي نعيش بقاياها اليوم والجحيم الآتي، والمثير للأعصاب أننا كلبنانيين نُجَرّ نحو سلوك طريق الجحيم، كما يساق قطيع الغنم إلى مصيره النهائي المحتوم، بعقول متفتحة، تعي وتعرف ما يدور حولها، وما يدبر لها، كالسكارى، نردد مع الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل شطراً من إحدى قصائده الشعبية التي تمجّد لبنان واللبنانيين: «من هَونْ (هنا) من سفح الجبل طـَرطـَشْنا الدني (الدنيا) علم ونور».

بعيداً عن لغة الندب والندّابين، تعالوا معاً نحاول معرفة ما يُرسَم في الخفايا، ودور كل فريق على الصعيد اللبناني، لا الإقليمي أو الدولي، إن «جولة أفق» مع الذين بيدهم الحل والربط في الدفع نحو طريق جهنم تظهر الصورة التالية:

إن «حزب الله»، طوال السنتين الماضيتين، حاول أن يكسب المعركة السياسية من دون أن يشترك في حرب داخلية، يقودها بقايا زعماء الحرب الأهلية الماضية، فوضع الإصبع على الجرح أكثر من مرة مستعيناً بشعار السيد المسيح في نضاله السلبي ضد العنف ونشر المحبة بين البشر: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، أو هكذا أراد أن يظهر صورته للبنانيين، ومصلحة الحزب في ذلك واضحة، وهي أن ربح الحرب من دون إطلاق رصاصة واحدة أجدى وأنفع، وقد اعتبر خصومه -وهم كثر في الخارج قبل الداخل- أن هذا الموقف هو نقطة ضعف، وأنه مهما حصل، فإن سلاح الحزب لن يضيع دربه ويتحول إلى الداخل (لبنان) بدلاً من أن يبقى مستعداً لمواجهة الخارج «إسرائيل»، وهناك معطيات ومعلومات جديدة تفيد بأن الولايات المتحدة الأميركية، ممثلة بسفيرها في لبنان، مازالت مقتنعة بالصورة التي رسمها حزب الله لنفسه، وهي تتصرف على هذا الأساس، وتطلب من حلفائها اللبنانيين أن يفعلوا ذلك. المعلومات الأخيرة تعاكس هذا وتفيد بأن الحزب قد وصل إلى حدود صبره الطويل، وأنه اتخذ قراره النهائي بالمواجهة المسلحة، إذا اضطر إلى ذلك، أو كما قال ممثلوه في أكثر من مناسبة: إن آخر الدواء الكي، وبلغة الأرقام، فإن ذلك يعني أن هناك نحو 30 ألف مقاتل بدأوا يأخذون مراكزهم القتالية النهائية هنا وهناك استعداداً لساعة الصفر.

في المقابل، فإن الفريق الآخر يستعد للمواجهة، ولكنه لا يملك القدرة التدميرية الموجودة لدى الخصوم، ويعتمد هذا الفريق على التأييد الإقليمي والدولي في تثبيت حقه «الأكثري» بتطبيق الديموقراطية وانتخاب رئيس جمهورية تابع له على أساس «النصف زائد واحد»، وخطته باتت واضحة، فهو سينتظر إلى الدقيقة الأخيرة التي يحددها الدستور لانتخاب رئيس جديد، ويأمل أن «يقنع» المعارضة بانتخاب رئيس ظاهره ليس موالياً، لكنه يرتدي ثياب الموالاة ويحمل في ثناياها برامجها، وإذا لم يحصل ذلك، فإنه سيسعى إلى فرض سياسة الأمر الواقع عن طريق انتخاب أحد مرشحيه «بالنصف زائد واحد»، والأرجح أن يكون نسيب لحود، لأنه يملك ناصية تأييد أكثر من دولة عربية، بالإضافة إلى دعم واشنطن. وهم، أي جماعة 14 آذار، يعتبرون أن فرض سياسة الأمر الواقع ستحدث بعض الجروح والشروخ في البداية، لكن بالإمكان مداواتها بسرعة بعد الانتخاب، وإذا ما تمت فصول هذا السيناريو، فإن هذه الجماعة ستسيطر على الحكم بنواحيه الثلاث: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة وكذلك مجلس النواب، لكونها تمثل أكثرية «النصف زائد واحد» من نوابه. هذا صحيح في منطق حسابات الديموقراطية العددية في دولة كالسويد مثلاً، لكن هناك مساحة شاسعة واسعة تفصل بين الديموقراطية اللبنانية حتى تصل إلى موازاة الديموقراطية السويدية وغيرها من الدول العريقة التي تؤمن بأن المواطن هو الذي يصنع الوطن.

إذاً هناك سوء حسابات في مكان ما في خطة الموالاة، والمثير والملفت للنظر معاً أن الولايات المتحدة تقع هي الأخرى، بعد العراق، في سوء حساباتها، فهي تشجع حلفاءها في متابعة هذا السيناريو إلى آخر مشهد، جاهلة، أو متجاهلة -لا فرق- ردود الفعل المعاكسة التي من شأنها -لا سمح الله- أن تهدم الهيكل على من فيه من دون تمييز بين موالاة ومعارضة.

وقد يكون من سوء الحسابات هذه أن الموالاة تعتبر أن الجيش اللبناني سيقف متفرجاً على ما يمكن أن يحدث، وإذا لم يفعل فإنه سينقسم على نفسه، كما حدث في تلك الحرب البربرية عام 1975. وحتى هذه اللحظة، فإن المعلومات الدقيقة المتسربة عما يجري داخل صفوف كبار ضباط الجيش (وهم من مختلف الطوائف بل يغلب عليهم طابع الانتماء المسيحي) قد انتهوا من عقد سلسلة اجتماعات بعيدة عن الأنظار والأسماع، واتخذوا قرارهم النهائي بعدم الوقوف على الحياد، بل «أقسموا على عدم الاختلاف والانقسام» وبالتالي الوقوف في وجه أي خطة تدميرية للبنان، وأن يكون تحركهم سريعاً في القيام «بعملية جراحية» تصون الأمن والأمان أولاً، وتحترم روح الدستور وأهدافه الحقيقية في إعادة لبنان إلى ديموقراطيته الفريدة من نوعها التي تقوم على أساس التوافق بين الطوائف والعشائر السياسية، وهذا -على فكرة- هو عنصر رئيسي في شعارات المعارضة.

بالإمكان القول، استناداً إلى عدد من كبار هؤلاء الضباط أن «خطة مواجهة تدمير لبنان من جديد» -وقد يكون هذا هو الاسم الذي أطلق عليها- قد وضعت بتفاصيلها الدقيقة وأن «الأوامر» قد وزعت على نطاق ضيق الآن، تمهيداً لتعميمها عند ساعة الصفر. هذه الخطة أخذت في الحسبان أن «جيش السلطة» -أي الموالاة- المؤلف من مجموعة من قوى الأمن الداخلي وليس كلها، هو الآخر قد وضع خطته، وأن أولى المواجهات ستقع بين جيش الدولة وجيش السلطة. وجيش الدولة يعتبر أنه إذا ربح هذه الجولة، فإن باستطاعته فرض سيطرته على البلاد من الحدود الجنوبية إلى الحدود الشمالية وما بينهما، وأن مقاومة ميليشيات الأحزاب الموالية لن تكون ذات قيمة، لأنها غير مهيأة للقتال أولاً، ولأن تسليحها لا يرتقي إلى تسليح جيش الدولة، بالإضافة إلى عنصر مهم جداً وهو أن المعارضة والموالاة مختلطة طائفياً بعضها ببعض، بحيث يستحيل إعطاء المعركة، في حال حدوثها، طابع الحرب الطائفية كما حدث في كارثة عام 1975. وهذا في الواقع هو الفارق الكبير الملموس اليوم في الأجواء التي سبقت حرب الـ75.

لكن مازال هناك نقطة أمل صغيرة إذا تمت إضاءتها فإنها قد تزيل الصورة السوداوية المرسومة أعلاه، هذه النقطة تأتينا من الخارج ومن المساعي الفرنسية المتجددة يوماً بعد يوم، مما يدفع البعض إلى القول إن الفرنسيين أصبحوا أكثر لبنانية من اللبنانيين أنفسهم، فباريس اليوم تعمل على ثلاثة خطوط لبنانية، وعربية إقليمية، ودولية، وهي ترفع شعار: «لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم»، وبمعنى أوضح فإنها تقترح انتخاب رئيس يدير الأزمة المرشحة للاستمرار بين الموالاة وحلفائها وبين المعارضة وأخواتها، والابتعاد عن سياسة حسم الأزمة بحد السيف، والزمن الذي يمكن أن يُكسب نتيجة هذه السياسة قد يكون كفيلاً بوضع حلول تدريجية، وفي هذا المجال فهي تقترح اسمين لإبعاد لبنان عما يسمى «الفراغ الدستوري»، اسمين لهما طعم ولهما رائحة، ولكن ليس لديهما عضلات، لأن العضل يجب أن يبقى في السواعد القوية في هذه المرحلة... هذان الاسمان هما رياض سلامة، حاكم البنك المركزي ذو الطعم المالي والاقتصادي الذي لا يختلف على المحافظة عليهما لا الموالاة ولا المعارضة، والثاني له طعم سياسي هو ميشال إده ابن العائلة السياسية القديمة التي شاركت في حكم لبنان منذ عهد الانتداب إلى يومنا هذا. وله رائحة ترتاح إليها دمشق التي لاتزال تجسد الناخب الثاني «اللا لبناني» لرئاسة الجمهورية مهما قيل ويقال عكس ذلك فإذا جرت الموافقة على أحدهما يكون لبنان قد خرج من قلب العاصفة، وإلا...فالآتي أعظم والعياذ بالله.

* كاتب لبناني