حرب تحرير لا تحريك

نشر في 09-10-2007
آخر تحديث 09-10-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

كانت حرب أكتوبر حرباً لتحرير الأرض وليست لتحريك الموقف من أجل التفاوض كما روّج ضعاف النفوس، تحققت بها للعرب خمس نتائج مهمة، تنطوي على عِبَر وعظات جمة، لو أحسنّا التعامل معها لكان وضعنا الآن جد مختلف.

هناك فئة منا تريد أن تهيل التراب على كل إنجاز حققناه، ويروق لها أن نبدو في أعين العالم من شرقه إلى غربه أمة مكلومة مهزومة من الأزل إلى الأبد، قدرها ومقدارها أن تبقى في ذيل القائمة، عالة على الدنيا، وخصماً من رصيد البشرية، واستقطاعاً من عمرها المديد.

مثل هؤلاء المغرضين المرجفين الكاذبين يشككون دوماً في الانتصار العظيم الذي تحقق قبل أربعة وثلاثين عاما، حين فتح المصريون طريق الانتصارات على إسرائيل ومن يقف وراءها، ليعبر إليها العرب في كفاحهم المقدس من أجل استرداد الأرض وصيانة العرض والدفاع عن الكرامة، فيطلقون انتفاضة الحجارة الخالدة، ثم يهزمون الإسرائيليين مرتين في جنوب لبنان: مرة على مهل وعبر سنين من الجهاد، ومرة على عجل وفي شهر كامل كان «حزب الله» يحارب فيه أغلب العالم، مجسداً وممثلاً في الجيش الإسرائيلي المتغطرس.

ففي مثل هذه الأيام كانت أقدام الجنود المصريين تدوس بثقة أعناق المحتلين الغاصبين، وتزحف في اتجاه الشرق لتستعيد سيناء الحبيبة إلى مصر، في معركة عسكرية وصفها كبار الاستراتيجيين والمقاتلين المحترفين في العالم بأنها «معجزة»، شارك العرب في صنعها بتنسيق كامل مع سورية وبتجريدات عسكرية رمزية من بلدان عربية عدة، وبقرار بطولي مشهود من دول الخليج العربية بقطع إمدادات النفط عن الدول التي تساند إسرائيل.

في ست ساعات سقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وانهار خط بارليف الحصين الذي أقامه العدو على الشط الشرقي لقناة السويس حتى يمنع المصريين إلى الأبد من استعادة أرضهم السليبة، وارتسمت علامات استفهام عريضة بشأن نظرية «الحدود الآمنة» وخرافة «إسرائيل الكبرى» التي تمتد من النيل إلى الفرات، وأوهام «شعب الله المختار»، ووعود القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذين ظنوا أن العرب «لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون، وإذا عملوا لا يتقنون».

كانت حرب أكتوبر حرباً لتحرير الأرض وليست لتحريك الموقف من أجل التفاوض كما روّج ضعاف النفوس، تحققت بها للعرب خمس نتائج مهمة، تنطوي على عِبَر وعظات جمة، لو أحسنا التعامل معها لكان وضعنا الآن جد مختلف، والنتيجة الأولى، تحقيق النصر العسكري للمرة الأولى على إسرائيل، والثانية، فتح الباب أمام استعادة الأرض العربية التي تم احتلالها عام 1967، أما الثالثة، فهي التوحد العربي في حدث نادر ولحظة تاريخية فارقة، لم تتكرر بالهيئة والكيفية التي جرت عليها أبداً، ولا تزال تُضرب كمثل جليّ على إمكان لمّ شتات العرب وإنهاء تفرقهم، ونبكي على أطلالها وقت الأزمات وأيام العدوان الخارجي علينا. فكثيراً ما تحدث المعارضون والمثقفون والمنشغلون بهموم الأمة وأتراحها عن ضرورة تفعيل «اتفاقية الدفاع العربي المشترك» كلما كان العرب على أبواب حرب، أو في غمار محنة شديدة، لكن هذه النداءات تذهب أدارج الرياح، ولا تلقى آذاناً مصغية من أحد أبداً، لتبقى روح حرب أكتوبر فريدة في تكوينها ومسارها، ويبقى الحنين إليها مبرراً.

والنتيجة الرابعة، تتجسد في قدرة العرب ممثلين هذه المرة في مصر وسورية، على وجه الخصوص، في التخطيط العسكري المحكم، وعلى أفضل وأحدث وجه ممكن بمقاييس سبعينيات القرن المنصرم، فالقوات المسلحة المصرية استخدمت أعلى وسائل التمويه والخداع والكتمان والسرية وفي مطلعها اختيار توقيت غير متوقع لساعة الصفر، ووضعت خطة حربية مذهلة، بدءاً من المسار الذي اتخذه الطيران الحربي، وانتهاءً بخراطيم المياه العملاقة التي فتحت ثغرات كبيرة في جسد خط بارليف لتمر منها الدبابات المصرية بعد أن عبرت القناة فوق جسور تم تركيبها في زمن قياسي، مروراً بحائط الصواريخ الذي امتد من بورسعيد شمالاً إلى السويس جنوباً، وتمكن من إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية في الساعات الأولى للحرب، والصواريخ الصغيرة الدقيقة التي أصابت الدبابات الإسرائيلية في مقتل، وشلت فاعليتها.

أما النتيجة الخامسة، فهي امتلاك العرب قدرة على التفكير المستقيم، الذي يقوم على مراكمة المعلومة فوق أختها، والفكرة فوق مثيلتها، والهدف فوق نظيره، في صبر ودأب وذكاء وفهم عميق، وليس التفكير الدائري، الذي يعني أن ننتهي إلى حيث بدأنا، أو ندور في مكاننا، بلا تقدم ولا ترقٍّ في الفكر والممارسة. وما جرى في حرب أكتوبر يمثل رداً على المقولات الغربية التي تدعي أن الشرقيين لا يعرفون سوى التفكير الدائري، واشتد ساعد هذا الرد بعد الحرب الأخيرة التي مرغ فيها بضعة آلاف من مقاتلي «حزب الله» أنف العسكرية الإسرائيلية المدججة بأحدث الأسلحة وأقواها.

هذه النتائج الخمس المهمة لا يجب أن يجرحها في نفوسنا كلام من يغتاظون من قفز الرئيس أنور السادات على انتصار أكتوبر العظيم بتنازلاته في معاهدة «كامب ديفيد»، ولا من يتعصبون لبلد عربي ضد آخر في تفكير قُطري عنصري ضيق، ولا من يعادون العرب والعروبة لفساد في الخلق وخسة في الطبع وهوى في النفس أو لمصلحة شخصية جعلت بعضهم يبيعون ضمائرهم لأعدائنا، ويروجون مقولاتهم وأفكارهم الخبيثة، التي ترمي إلى إفقادنا الثقة بالنفس، والرضاء بالعيش في مهانة، تابعين أذلاء.

* كاتب وباحث مصري

back to top