الإنسان الضائع
ها هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يدخل عامه الستين، والحديث عن الإعلان على أية حال، وكيفية صدوره لم يعد من قبيل سرد الحوادث التاريخية، فالإعلان حاضر اليوم أكثر ربما من الحقبة التي صدر فيها، فحقوق الإنسان، مفهوماً وممارسةً، أصبحت الشغل الشاغل لكثير من البشر، وأصبح موضوعاً يتصدر المحافل الدولية، كما صار من المواضيع التي تثير جدلاً دائما على المستويات والأصعدة كافة، كما أصبح ملحوظا أن هناك ازدياداً في البرامج الأكاديمية المعنية بحقوق الإنسان في أغلبية الجامعات في العالم، ويكفي أن ندلل على أن في جامعة «هارفارد» العريقة هناك 5 مراكز متخصصة في حقوق الإنسان ونحو 11 مركزاً تتعامل مع حقوق الإنسان بشكل جزئي، كما أن هناك 3 برامج أكاديمية مختلفة تمنح درجات علمية في هذا المجال، كذلك فقد زاد عدد المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان في العالم سواء بصورته الشاملة أو بتخصص في مجال معين من عشرات الآلاف، خصوصاً إذا فتحنا الباب على مصراعيه على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن المؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية وورش العمل والدورات التدريبية تعقد في أرجاء العالم على مدار الساعة لبحث وتطوير مفاهيم وممارسات حقوق الإنسان.وترتكز مجمل هذه الفعاليات والأنشطة، بل وتكون مرجعيتها الأساسية هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتدور في فلكه وتجعله مسطرة لقياس الأشياء.
ولاتوجد وثيقة دولية بشمولية «الإعلان» تحظى بهذا الحجم، وهذا الكم الهائل من القبول من شعوب العالم كافة، حتى ان المحاولات العربية والإسلامية لإظهار موقف سياسي خارج السرب ظلت تدور في إطار وسياق الإعلان وهو موضوع مهم لابد من العودة إليه لاحقاً.فما هو سر جاذبية ذلك الإعلان؟ ولماذا مازالت تلك الوثيقة التي صدرت عام 1948 تلعب الدور الأساسي في تحديد ماهية الحقوق الإنسانية وطبيعتها وأسسهايتكون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من 30 مادة، تتوزع في ما بينها على ما يسمى بالجيل الأول، وهو الحقوق المدنية والسياسية، والجيل الثاني المعروف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو متوافر بغزارة على الإنترنت لكل من يريد الاطلاع عليه، وربما لم تتعرض وثيقة أممية للجرح والنقد والتعديل أثناء مناقشتها كما جرى للإعلان. ويبدو أن جزءاً من جاذبية الإعلان كونه قد شخص وحدد وشرح مجمل حقوق الإنسان في وثيقة سياسية، فالإعلان ليس إلا وثيقة سياسية عبّرت عن رؤى وأفكار وتوجهات الحكومات وإلى حد ما، الشعوب المشاركة في الأمم المتحدة في الفترة ما بين 1946وحتى 1948، وبالتالي لم يكن الإعلان، كما يريد أن يصوره بعضهم عندنا، يمثل وثيقة فكرية، بل كان عبارة عن خطة عمل أو خارطة طريق لكيفية تعامل الحكومات مع مواطنيها أو القاطنين على أرضها، وعلى هذا الأساس كانت الخلافات الأساسية سواء في لجنة حقوق الإنسان أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة وخلال قرابة الثلاث سنوات تتركز على المعالجة السياسية أكثر من التركيز على البعد الفكري ومدى احترام الحكومات -المتهم الأول في انتهاك حقوق الإنسان- لكرامة الإنسان وآدميته، وبالتالي تمت صياغة تلك الوثيقة بطريقة تجعل كل إنسان مضطهد، بغض النظر عن انتمائه أو لونه أو ديانته، يجد نفسه في ذلك الإعلان بلغة واضحة بسيطة بعيداً عن السفسطة والجدل الفكري، وهكذا صار الإعلان نصاً للمضطهدين والمهمشين والمسحوقين والذين يتعرضون للتمييز، تحت أية مبررات كانت. وربما تعود جاذبية الإعلان إلى أنه يمثل في مضامينه منظومة أخلاقية لن تستطيع أي حكومة أن تعلن معارضتها لها، فأين هي الحكومة التي تعلن أنها تقوم باعتقال الناس من دون تهم، أو أنها تقوم بالتعذيب، أو أنها تشجع المحاكمات غير العادلة، أو أنها تقوم بالتمييز ضد شرائح اجتماعية في التعليم والرعاية الصحية والعمل والتنقل وغير ذلك؟ على العكس من ذلك، فكل الدول من دون استثناء تعلن ليل نهار التزامها بتلك المبادئ حتى لو كانت ممارستها مخالفة لذلك.ويؤدي البعد الأخلاقي الإنساني في الإعلان إلى أن تقوم الدول والجماعات باستغلاله بشكل منهجي لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. ولعل جزءا آخر من جاذبية الإعلان تتمثل في أن الدول التي دفعت به وأصرت عليه وتحمست له وقدمت أكثر صياغاته التي اعتمدت في النهاية، كانت في مجملها دولاً صغيرة تشعر بالخوف من التهميش والابتلاع والضياع مثل تشيلي وبنما وكوبا ولبنان.لكن الأمر لا يتوقف، ولن يتوقف، عند جمال النص، بل دخل الإعلان ونصوصه متاهات السياسة الدولية وصراع القوة بين المجتمعات والدول، ما أفضى إلى إضعاف تلك المعاني وتحويلها إلى نصوص لا تجد انعكاساً على أرض الواقع... وللحديث بقية.