ما يدور في المنطقة هو معركة إيجاد «شرق أوسط» يراد له أن يبنى على ركام عالم ينهار، حاولت الإمبراطورية الأميركية جاهدة أن تبشّر به قبل أربع سنوات عبر بوابة العراق، بينما تلوّح قوى المقاومة والممانعة الإقليمية بقيادة المايسترو الإيراني بظهور ما تسميه «الشرق الأوسط الإسلامي»!

Ad

يبدو أن الإيرانيين استمرأوا لعبة القط والفأر مع الأميركيين بعد أن أتقنوا «اللعب بالكبار»، أو مع الكبار، في النادي الدولي في أكثر من ساحة وعلى أكثر من قضية، حتى ذهب بعضهم إلى إطلاق صفة «المايسترو» على الدور الذي يلعبونه في المنطقة.

صحيح أن الأميركيين لا يريدون الإذعان لهذه الحقيقة، ويفضلون الهروب إلى الأمام من خلال إطلاق صفة «البنك المركزي للإرهاب» على الدور الإيراني، وهو توصيف مثقل بالأيديولوجبا وازدواجية المعايير وحروب الكلمات، لدور إيران الحقيقي في إدارة منظومة إقليمية تمتد من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، الذي استطاعت من خلاله طهران عرقلة المنظومة الأميركية-الإسرائيلية المعروفة بـ«الشرق الأوسط الجديد» في أكثر من ساحة، إن لم تجعلها «خاسرة» تماما.

لكن أي متتبع مطلع أو مراقب حيادي يستطيع اليوم أن يؤكد وبسهولة أن الأميركيين باتوا على منعطف طريق خطير في مشروعهم الإمبراطوري الطموح، الذي بدأوه مع تسلق المحافظين الجدد سدة الحكم في واشنطن، إذ لم يبق أمامهم سوى خيارين: إما تجرع علقم مخاطرة حرب جديدة عنوانها إسقاط منظومة المقاومة والممانعة التي يقول مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي «إن بلاده تقودها على مستوى شعوب العالم ضد واشنطن»، وإما القبول بلعبة القط والفأر مع الداهية الإيراني الذي نشأ أصلا وتشرّب منذ القدم على ممارسة هذه اللعبة بامتياز، وهو ما يعني في هذه المرحلة الجلوس إلى طاولة مفاوضات ثلاثية تضمهم إلى جانب طهران وما يسمى دولة العراق الجديد، التي عملت واشنطن مدة أربع سنوات عجاف على تقديمها بمنزلة «الدولة المثال» في المنظومة المبتغاة، فإذا بها مهلهلة من الداخل و«مخردقة» من الخارج!

وإيران اللاعب الأول فيها كما يزعم كل حلفاء واشنطن وخصومها أيضا.

ورغم انعقاد اجتماع الخصمين اللدودين ومعهما الدولة المضيفة «المثال» إلى طاولة «المحادثات»، كما أصر مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية على تسميتها، وليس المفاوضات كما كان يريدها الأميركيون. والفرق من وجهة نظر السيد علي خامنئي، وكما ورد في توجيهاته الى الدبلوماسيين ممن شاركوا عن الجانب الايراني، هو أن المفاوضات ستعني، فيما تعنيه، «شرعنة» الاحتلال الأميركي للعراق، ومساعدته على ما بات يعرف بـ«الخروج المشرف» من ورطة العراق، فى الوقت الذي تعتقد فيه القيادة الإيرانية أن المطلوب أولاً وأخيراً، هو تأمين الأمن والاستقرار للعراقيين، و«أن هذا الأمر، هو شأن عراقي بامتياز ... ولا دخل للأميركيين فيه»، كما صرح مرشد الثورة الايرانية. هذا فيما كانت القيادة الأميركية تأمل من وراء هذه المفاوضات «وضع الإيرانيين أمام التزاماتهم تجاه المجتمع الدولي ووضع حد لتدخلاتهم في أمن العراق ومستقبله»، وبالتالي يعني هذا عمليا تحويل المفاوضات الى محاكمة دعائية للإيرانيين وتحميلهم مسؤولية تدهور الوضع الأمني في العراق الجديد!

إذن هناك «معركة» أخرى دارت في بغداد بين خصمين لدودين؛ أحدهما يمسك بتلابيب الآخر. صحيح أن مسرحها الظاهري عاصمة الرشيد التي تبدو أقرب ما تكون هذه الأيام الى الوصف التاريخي المعروف عنها بأنها «سرة العالم»، لكنها ليست معركة «السيطرة على بغداد»، كما يرغب الأميركيون فحسب، لا التباين حول مفهوم الأمن العراقي، كما يشدد الإيرانيون، بل هي أبعد من ذلك بكثير، إنها معركة إيجاد «شرق أوسط» يراد له أن يبنى على ركام عالم ينهار حاولت الإمبراطورية الأميركية جاهدة أن تبشر به قبل أربع سنوات من بوابة العراق، ففشلت فيما تلوح قوى المقاومة والممانعة الإقليمية بقيادة المايسترو الإيراني بظهور ما تسميه «الشرق الأوسط الإسلامي»!