مشاغلُ الخبرة ومشاغلُ التقنية
في حقول الكتابة الابداعية والفن والموسيقى، يحسن بذائقتنا النقدية أن تميز بين نوعين من المبدعين: المبدعُ الكبير الذي يحتلُّ موقعاً استراتيجياً، والآخر الصغير الذي يحتل موقعه التكتيكي، إن صحّ هذان التعبيران على ما أُريد.
الأولُ في الحاضر وفي المستقبل إنما يعمل ما عمله شبيهُه في الماضي: يحتوي الموروث، ويستشرفُ المستقبل، ويولّدُ الجديد من خبرتهما. والثاني الذي يقتصر على محاولة الابتكار، و خلق لغةٍ جديدة في حقله الإبداعي. الشواهدُ في تاريخ الأدب والفن العالميين، يمكن وحدها أن تعزز مصداقيةَ هذا الرأي. ففي الشعر الحديث نعرفُ دانتي، ووردزورث، وطاغور، وييْتس، وفروست، وأليوت، وباسترناك، وأراغون، وأودن... الخ. شعراءٌَ كبار، انصرفوا إلى تجربتهم الداخلية، وأضاءوا عبرها عصراً برمّته. وإذا تأملتَ نتاجهم ستكتشف الكثير من بؤر الابتكار والتجديد. ولكننا لا نعرف أنهم مأخوذون بهذا الابتكار وحده، وبمحاولة خلق لغة جديدة لفنهم تستغرق كل حياتهم. لقد فعلوا ذلك، وأكثر من ذلك من دون سعيِ مقصودٍ لذاته. إلى جانبهم، نعرف أيضاً بريتون والشعراء السوريالين، وشعراء الدادا (مثل الألماني شفيترز)، وشعراء اللغة، وشعراء الصوت، وشعراء الرسم...الخ. نعرف انصرافهم الخالص إلى الابتكار، ومحاولة خلق لغة شعرية غير مسبوقة، بدعاوى شتى. إلا أن هذا الهوَسَ، والضجيجَ الذي خلّفه، لمْ يوفر للقارئ شعراً عظيماً، وشاعراً كبيراً. إنهم طاقةٌ إبداعية محدودة بهذا الانصراف المحدود. ومهمتها تنطوي على أهمية بالتأكيد. ولكنها أهميةُ التأليب أولاً، من أجلِ مزيدٍ من الحيويةِ والحركةِ إلى الأمام، أو أنها أشبه بلمساتِ الفرشاة الأخيرة التي تُكمل اللوحة بين يدي الرسام. في الرواية والمسرح مازلنا نستعيد أصوات غرييه وساروت، ويونسكو، ولكن كظلال شبحية داخل أطرِ شبه منسية. وفي الفن التشكيلي، مازلنا نختبر ذائقتنا برؤية معارض دو شامب، وبيكابيا، وهانس آرب، وبولوك، وعشرات آخرين ممن فتحوا لنا ولهم طرقاً جديدة، ولكن أحدهم لا يملك أن يقف ثابتاً داخل المجرى، مُفرداً، ومضيئاً على مدى أوسع من المساحة التي يحتلّها كيانه. الأمر الذي ألفناه مع مونيه، وسيزان حتى بيكون وفرويد وهوكني من معاصرينا. والشواهد من هؤلاء لا يحصيها الحد. صحيح أن بيكاسو ابتكر لغةً جديدة، ولكنه لم يقصر كل حياته الفنية على ابتكارها. والذي يطّلع على مراحل رسمه الأولى (المرحلة الوردية، والمرحلة الزرقاء...) يتعرف على معنى المدى الأوسع للموهبة الفردية داخل الموروث. في مطلعِ القرن العشرين ظهر من ينشغل، في حقل الموسيقى، بالبحث عن لغة مغايرة أيضاً، منتفعاً من التطورات الحديثة بشأن علم الصوت، والتقنيات المستجدة في الآلات الموسيقية، والإلكترونية. ظهر شوينبيرغ في النمسا، مؤسساً مع بيرغ وفيبرْن ما يُسمى بمدرسة فيينا الثانية. هجروا السلم الموسيقي المعهود، وتبنوا «اللامقامية»، أو الموسيقى غير محددة المقام. ثم جاء الألماني ستوكهاوزن، رائد الموسيقى الألكترونية، فغرّب الطاقة اللحنية والهارمونية بعيدا عن الذائقة المعتادة على اللحن والهارموني. وهكذا فعل الفرنسي بوليز، والأميريكي جون كَيْج، صاحب السوناتا الصامتة التي بعنوان «4.33»، وهو الوقت الذي تستغرقه من الصمت الخالص! إن عطاء أيٍّ من هؤلاء لا يمكن أن يُقرنَ بما أعطاه الكبار منذُ باخ حتى شوستاكوفتش. ومع أن أعمالهم من النادر أن تجد لها موقعاً في قاعات العزف الموسيقي، أو بين الإصدارات الرائجة، تجدُ في المقابلِ ظاهرةَ العودةِ إلى الموسيقى المَقامية في أشدِّها، من قِبلِ المواهبِ الشابة. في ثقافتنا العربية قدْ نقع على هذين النوعين من المبدعين ولكن ليسَ بالوضوح ذاته. فطبيعةُ المواهبِ المبدعةِ واحدةٌ في توزِّعها الثنائي هذا في كلِّ العالم. لدينا شعراءٌ وكتّابٌ شُغلوا بالابتكار الذي لا يُغادر التقنية واللعب اللغوي، عن خبراتهم الداخلية، الروحية. وتبنوا، على هدى الغربيين، تياراتٍ طليعية تعكس التركيبة الذهنية التجريدية للمبدع. ولكن الملفتَ للنظرِ أن ظاهرةَ المبدع المستغرقِ في العملية التقنية لابتكار الجديد، والسعي إلى إيجاد لغة بديلة في حقول الأدب، الفن، والموسيقى، تكاد تكون ظاهرة حديثة ولدت مع الثورة الصناعية، التكنولوجية، الإلكترونية.