عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.
وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات. من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع. لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته. أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته. ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه. في الحلقة الخامسة من تعقيب د. سعاد الصباح على ذكريات د. أحمد الخطيب تتطرق الى موقف الشيخ عبدالله المبارك بصفة خاصة والكويت بصفة عامة من حركات الاستقلال الثورية العربية ودعم الكويت لكل ما هو عربي ويصب في مصلحة الأمة العربية، ورأت أن جهود الدعم والتأييد الكويتية كانت ارادة سلــــطة ومجـــتمع ولم تقتصر على جهود د. الخطيب وحده. تمتلئ ذكريات د. أحمد الخطيب بالإشارات التي ترجع الدعم الشعبي الكويتي للقضايا العربية إلى جهوده هو ومجموعته. وهو بذلك يعطي لما قام به وزناً أكبر مما حدث فعلاً. والحقيقة، انّ هذا الموقف كان تعبيراً تلقائياً وطبيعيّاً عن مشاعر الكويتيين الصادقة، والتي أيدها الشيخ عبدالله السالم أمير البلاد ونائبه الشيخ عبداللّه المبارك. ويصبح من قبيل التجرّؤ على من انتقلوا إلى رحاب الله الانتقاص من دورهم أو المزايدة عليه. تلقّى المناضلون الجزائريون دعماً عربياً واسعاً على مختلف المستويات الشعبية والرسمية. وكانت الكويت من الدول المؤيدة للشعب الجزائري وكفاحه من أجل نيل حقوقه، وبرز ذلك في عدّة مواقف كانت للشيخ عبدالله المبارك فيها أدوار رائدة. ففي 26 أبريل عام 1959، استقبلت الكويت وفداً جزائرياً برئاسة السيد فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، كان على رأس مستقبلي الوفد، أمير البلاد الشيخ عبدالله السالم (جريدة الجمهورية بتاريخ 27 أبريل 1959)، كما كان على رأس مودّعيه الشيخ عبدالله المبارك (جريدة الجمهورية بتاريخ 29 أبريل 1959). ولقي الوفد الجزائري كل حفاوة وتقدير، وأكّد الشيخ عبدالله المبارك إعجابه بنضال الشعب الجزائري، واصطحب الوفد لاستعراض الجيش الكويتي، وبعد الاستعراض قال: «إن جيشنا يفخر بنضال الشعب الجزائري الحبيب، ويقف مؤازراً له، فالجيش الكويتي جزء من جيش العروبة، أي انه جيشكم. وسيكون النصر حليف الشعب الجزائري العظيم» (مجلة العربي، العدد السابع، يونيو 1959). تأييد الثورة الجزائرية ولم يكن هذا موقفاً طارئاً أو جديداً بالنسبة للشيخ عبدالله المبارك الذي أيّد الثورة الجزائرية منذ بدايتها، وحضر كثيراً من الاجتماعات الشعبية لتأييدها. وعلى سبيل المثال، فعندما قبض الفرنسيون على خمسة من قادة الثورة في أكتوبر عام 1956، اجتمعت لجنة الأندية بالتنسيق مع دائرة التعليم، ونظّمت اجتماعاً في المدرسة الثانوية حضره الشيخ عبدالله المبارك مع الشيخ عبدالله الجابر. وتحدّث في هذا الاجتماع طالبان جزائريّان وندّدا بالاستعمار الفرنسي للجزائر، كما تحدث فيه الدكتور أحمد الخطيب. وأصدر المجتمعون بياناً بمقاطعة البضائع الفرنسية، وفي نهاية الاجتماع تبرّع الشيخ عبدالله المبارك بمبلغ 100 ألف روبية لمصلحة ثوار الجزائر (Confidential Annex to Kuwait Diary no.11 Covering the Period October 28 November 28. 1956). وأرسلت القنصلية الأميركية على وجه السرعة برقية إلى واشنطن عن هذه الأحداث ورد فيها «ان الكويت شهدت إضراباً عاماً يوم 28 أكتوبر احتجاجاً على السياسة الفرنسية تجاه الجزائر، وأن هذا الإضراب تم بعلم الحكومة وتحت إشرافها، وأن الشيخ عبدالله المبارك، القائم بأعمال الحاكم، تبرّع لمصلحة ثوّار الجزائر، وأن الكويت امتلأت بالشعارات المعادية للاستعمار والمؤيدة لجمال عبدالناصر» Telegram from American Consulate to Secretary of State. October 29 . 1956). وفي نوفمبر عام 1957، نظّمت لجنة الأندية احتفالاً كبيراً في ذكرى قيام الثورة الجزائرية حضره الشيخ عبدالله المبارك، القائم بأعمال الحاكم. وحسب تقرير القنصل الأميركي عن الاجتماع، «فقد انتقد المتحدّثون وعد بلفور، وأشادوا بالقومية العربية والوحدة العربية» (From American Consulate (Seelye) to (Department of State. November 5. 1957. وكان هذا الاحتفال جزءاً من أسبوع دعم الجزائر الذي تخللته حملة لجمع التبرعات وتوزيع البيانات المؤيدة للثورة. وعبر مكبّرات الصوت المحمولة على السيارات، طلب شباب الكويت من المواطنين التبرّع لنصرة الثورة الجزائرية تحت شعار «ادفع الزكاة لإخوانك الجزائريين». وحسب تقرير للقنصل الأميركي، «فإنه عندما قام الوكيل السياسي بتنبيه الشيخ عبدالله المبارك القائم بأعمال الحاكم إلى هذه الأنشطة وتحذيره له من تداعياتها، فإن الشيخ لم يعط التحذير اهتمامه» (From American Consulate (Seelye) to Department of State. November 18. 1957). وفي تصريح صحفي، نُشر في جريدة عراق تايمز في ديسمبر عام 1959، صرّح الشيخ عبدالله المبارك بأنّ «الكويت قدّمت خدمات قيّمة لدعم القضية الجزائريّة، لأن لدينا إيماناً عميقاً بحق الجزائريين في الحرية والاستقلال، ونحن سنسعى دائماً لتوفير المساعدات حتى تتحرر الجزائر، وأنّه قد تمّت الموافقة على إيفاد عدد من الطلبة الجزائريين للدراسة في الخارج على نفقة الحكومة الكويتية (Iraq Times. December 2. 1959). أحبَّ الشيخ عبدالله المبارك في مصر تاريخها، وشعبها، وثورتها، وجيشها، ورئيسها. وكان معجباً بها كرجل دولة، وكمواطن عربي. وحرص على زيارتها باستمرار، أحياناً بشكل رسمي -كانت أول زيارة رسمية له في عام 1956 - ولكنّ أغلب زياراته كانت بشكل شخصي. عزة الأمة في قوتها لقد كانت مصر في عيني الشيخ عبدالله المبارك أصدق تطبيق للمبدأ الذي وضعه نصب عينيه، وهو «أن عزّة الأمة في قوتها، ولا قيمة لحق لا تسنده القوة» (من كلمته التي سجلها في دفتر التشريفات بالمصانع الحربية. جريدة الأهرام بتاريخ 26 فبراير 1956). فقد حققت مصر هذا المبدأ لتكون «ترسانة للبلاد العربية لتوفر ما تحتاج إليه من سلاح وعتاد لبناء جيوشها العظيمة التي تحمي عزّتها، وتحقّق عظمتها، وتردّ إليها حقوقها، وتجعلها مرهوبة الجانب، رفيعة الشأن بين مجموعة الأمم» (المصدر السابق). ولا عجب في أن يكون ذلك أول أسباب الإعجاب والتقدير؛ أليس هو من فاوض وثابر في سبيل تسليح بلاده وجيشه؟ ألم تكن قيادة مصر هي التي جسّدت ممارساتها آراءه ومواقفه من قضايا التضامن العربي والعلاقات العربية؟ ألم ينص دستورها على أنّها جزء من الأمة العربية. وهو ما أشار إليه الشيخ عبدالله المبارك قائلاً «لقد أثلج صدورنا وأثار زهونا بأن مصر، والفضل في ذلك لرجال الحكم الحاضر، وضعت في مقدّمة دستورها أنها جزء من الأمة العربية» (حديث لجريدة الجمهورية بتاريخ 1 مارس 1956). كانت أولى زيارات الشيخ عبدالله المبارك الرسمية إلى مصر، أو كما وصفها هو «أعزّ وأحب الأقطار إلى كل عربي» (حديث لمجلة الاثنين والدنيا، بتاريخ 8 أغسطس) في عام 1956 بناءً على دعوة وجهتها له حكومة الثورة والمؤتمر الإسلامي. وجدير بالذكر، أن الشيخ عبدالله المبارك دعم أنشطة المؤتمر وقام سكرتيره العام وقتذاك، أنور السادات، بزيارة الكويت عدّة مرّات، وقام بزيارة المصانع الحربية، وكلية الشرطة، وجامعة الدول العربية وهي زيارات لا تخلو من دلالة سياسية. وأقام له الرئيس عبدالناصر مأدبة عشاء بمنزله بمنشية البكري قلّده فيها أعلى الأوسمة المصرية واحداً منه وآخر من الرئيس محمد نجيب. وكانت تلك الزيارة بداية لعلاقة وطيدة بين الرجلين. كانت هذه الزيارة في العام الذي أعلنت فيه مصر تأميم شركة قناة السويس، ووقتها قال الشيخ: «إن الشعب الكويتي متضامن مع الشعب المصري، ومع حقه الصريح في تأميم شركة قناة السويس وإن جمال عبدالناصر يقود حركة التحرير العربية بشجاعة وبراعة نادرتين» (جريدة الأهرام بتاريخ 22 أغسطس 1956). وقال معلّقاً على ما شاهده خلال هذه الزيارة «لم أدهش أن تنهض مصر هذه النهضة العظيمة، وتثب في ثورتها المباركة هذه الوثبة الجريئة العظيمة، لأن البلد الذي أعطى التاريخ العربي ما أعطى لا يُستبعد عنه ذلك». وكان الشيخ رمزاً لتيار عريض في الرأي العام الكويتي، وبين أسرة الصباح التي نظرت إلى مصر باعتبارها أملاً عربياً بازغاً جديراً بكل تأييد ودعم ومعونة. لذلك، فقد تسابق الكويتيون في التبرع لدعم كفاح مصر في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956. وكان أهم ما يحرص عليه الشيخ عبدالله المبارك في زياراته لمصر هو متابعة التطوّر في الجيش المصري، الذي طالما وصف جنوده بأنهم: «جنود العرب الذين سيحفظون للأمة عزّتها ومجدها» (من كلمة سجلها في دفتر الزيارات بالكلية الحربية جريدة الأهرام بتاريخ 24 فبراير 19569). كما كان حريصاً على زيارة المصانع الحربية، والكليات العسكرية بأنواعها لنقل كل ما هو جديد ومفيد للجيش الكويتي. وعبّر عن هذا الشعور بقيامه في مايو عام 1963 بإهداء الجيش المصري مئة سيارة جيب (جريدة اليوم بتاريخ 3 مايو 1963، وجريدة الأهرام بتاريخ 12 مايو 1963)، وذلك بمناسبة إعلان الاتحاد الثلاثي بين مصر وسورية والعراق. وقبل ذلك بعشر سنوات، بادر بحملة اكتتاب واسعة في الكويت للمساهمة في تسليح الجيش المصري. وتطلع إلى الوقت «الذي يصبح فيه الإنتاج الحربي المصري ليس محصوراً بحاجة مصر فقط، وإنّما ملبياً لحاجة جميع القوى العسكرية في أرجاء العالم العربي» (جريدة الأهرام بتاريخ 1 مارس 1956). كما كان له تقديره الخاص لدور مصر الثقافي والحضاري من خلال خبرات أبنائها العاملين في البلدان العربية. ووصف دور المعلمين المصريين في تنمية الكويت وتقدّمها بقوله «إنه إذا كانت الكويت قد خطّت خطوات نحو تعليم أبنائها، فالفضل في ذلك يرجع إلى المعلمين الذين عهدنا إليهم بأولادنا، وأغلب هؤلاء المعلمين هم من أبناء مصر... وفي الواقع، إن مصر والكويت بلد واحد، وكل بلد عربي إنما هو أمّة عربية واحدة، وستأخذ مكانها الفسيح تحت الشمس وسيعيد أبناء العروبة إن شاء الله مجد آبائهم التليد وحضارتهم الخالدة» (جريدة الجمهورية بتاريخ 1 مارس 1956). وفي مقابلته لوفد من الصحافيين الذين زاروه في منزله في القاهرة في عام 1958، قال «لا يجب أن توجد كلفة بيننا، فنحن أخوة كل العرب، وما جئت إلى القاهرة إلا لتوكيد هذه الرابطة بيننا وبين إخواننا المصريين وعلى رأسهم الزعيم البطل جمال عبدالناصر. ولهذا، فقد كنّا نعتمد في الماضي على إرسال الضباط الكويتيين للتدريب في إنكلترا، أمّا الآن فنحن نوفدهم إلى الكليات الحربية في الجمهورية العربية المتحدة... إن الكويت هي دولة عربية، وهي متّحدة فعلاً مع الجمهورية العربية المتحدة ومع سائر البلاد العربية مادياً ومعنوياً...» (مجلة المصور بتاريخ 3 أكتوبر 1958). قلق بريطانيا وبالطبع، فإن الحكومة البريطانية لم تنظر بعين الموافقة أو الرضا إلى علاقات الشيخ عبدالله المبارك المتزايدة بمصر وبالقيادة المصرية، فقد كان أشد ما تخشاه بريطانيا هو تأثر الشيخ عبدالله المبارك بالسياسات المصرية لما في ذلك من تأثير سلبي على مصالحها وسياساتها. ولمناوءة احتمالات زيادة «النفوذ المصري» -كما كان يُسمى في تقارير الوكيل السياسي- لجأت بريطانيا إلى عدّة وسائل، مثل ما قامت به عندما تسلم الشيخ عبدالله المبارك الدعوة الرسمية لحضور اجتماعات المؤتمر الإسلامي عام 1956، حيث حذّرت أمير الكويت من احتمال ازدياد «النفوذ المصري»، وذلك حتى يلفت نظر الشيخ عبدالله المبارك لعدم التعرّض للموضوعات السياسية أثناء الزيارة. ومن الواضح أن الشيخ عبدالله المبارك لم يأخذ بهذه النصيحة، فقد تناولت تصريحاته في القاهرة كل القضايا السياسية التي كانت مثارة على الساحة العربية وقتذاك [From Political Agency to Foreign Office, February 20, 1956]. وتشير الوثائق البريطانية إلى أن لندن كانت تخشى من أن يستخدم الشيخ عبدالله المبارك علاقته بمصر لتوسيع دائرة نفوذه في الكويت، كما خشيت من احتمال قيامه بشراء السلاح من مصر [From Political Agency (Bell) to Political Residency (Burrows), January 11, 1957]. كذلك سعت بريطانيا إلى استخدام العراق كعنصر توازن مع مصر. وفي تقرير بتاريخ 29 فبراير عام 1956، ورد أنه «على ضوء الزيارة المرتقبة للشيخ عبدالله المبارك إلى مصر، فمن المفيد أن تقوم الحكومة العراقية بدعوته، وأن تشمل الدعوة زيارة لوحدات من الجيش وربما حضور حفل تخريج دفعة جديدة في الكلية الملكية الحربية». والحقيقة ان مثل هذه «الاحتياطات» لا تدلّ فقط على حرص لندن على الاحتفاظ بوضعها ونفوذها في الكويت، بل تشير أيضاً إلى المكانة التي تبوأتها مصر لدى الشيخ عبدالله المبارك. لقد احتلّت مصر مكانة متميزة لديه، وكم أثنى على دورها في مساعدة الكويت على النهوض عن طريق تقديم الخبرة في شتى ميادين الحياة [From American Embassy in Cairo (Schnee) to Department of State, March 9, 1956]. بادلته مصر هذه المشاعر حباً بحب، فكان الشيخ عبدالله المبارك موضع حفاوة وتقدير من كل المسؤولين المصريين، وكانت له علاقة خاصة مع كل من الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات واستمرت هذه الصلة بعد استقالته من الحكم. إرادة سلطة ومجتمع هذا لم يكن موقف الشعب الكويتي إذن من القضايا العربية نتيجة جهد د. الخطــــيــــب واحــــد أو مجمـــــوعـــــة صغـــــيـــــرة مـــن الشبــــــاب كما يصـــوّر لنــــــا د. الخطيب في كتابه، بل كان تعبيراً عن إرادة سلطة ومجتمع ولم تكن الأنشطة الخطابية وحملات جمع المال لدعم القضايا العربية تتم في سرعة أو في الخفاء، وإنّما كانت تحدث في وضح النهار، وبموافقة السلطات الرسمية. وخلال ما يزيد على ثلث قرن شهد عبدالله المبارك عديداً من الأحداث، وبعضها شارك في صنعها أو كانت له اليد الطولى في حدوثها. فعلى المستوى الوطني وخلال خمسة وثلاثين عاماً أسهم في بناء دولة الكويت الحديثة في مختلف مراحلها. ويمكن أن نميّز بين عدّة مراحل في هذا المجال: المرحلة الأولى وهي التي تبدأ من عهد مبارك الكبير وتستمر حتى تولي الشيخ أحمد الجابر الحكم في عام 1912، وشهدت هذه المرحلة وضع أساس الدولة. واتّسمت المرحلة الثانية (1912 - 1946) بالسعي نحو «إيجاد مؤسسات متوازنة للسلطة»، والبحث عن صيغ للمشاركة الشعبية. أما المرحلة الثالثة (1946 - 1960) فهي مرحلة التغيّر السريع في المجتمع ومؤسسات الدولة والانفتاح على الخارج تحت تأثير الثروة النفطية التي كان من شأنها إحداث تحوّلات جذرية في أسلوب الحياة ومستوى المعيشة. وتمتد المرحلة الرابعة (1961 - 1990) من الاستقلال إلى فترة الغزو العراقي والاحتلال. وأخيراً مرحلة التحرير وإعادة البناء منذ عام 1991. في المرحلة الثانية، كان الشيخ عبدالله المبارك -وهو مازال في فترة الشباب المبكّر- مسؤوليته في إدارة الأمن العام ومكافحة التهريب. وزادت أهمية هذا الدور في سنوات الحرب العالمية الثانية. ولكن الدور الأكبر للشيخ كان في السنوات العشر السابقة على الاستقلال. ويبدو أن القدر ربط بينه وبين وطنه في مرحلة حاسمة من التطور لكليهما. فقد كان الشيخ في بداية الثلاثينيات وهي مرحلة الرجولة والقدرة على العطاء، وكان الوطن يتفجّر حيوية ونشاطاً ويتدفّق بالخير والنماء. وتفاعل الرجل مع متطلبات المرحلة من أجل بناء مؤسسات الدولة الحديثة. علاقة عبدالله المبارك بالرئيس عبدالناصر لقد أدرك الشيخ عبدالله المبارك أن النهضة التي شهدتها مصر بعد قيام الثورة ما كانت لتتحقق دون وجود قيادة قوية تملك من الصلابة ما يمكّنها من تحقيق تلك الخطى الواسعة في مجال التقدّم والبناء. ولأن الأقوياء لا يستهويهم إلاّ الأقوياء، فقد قامت علاقة إعجاب وتقدير بين الطرفين. ومما يذكر في هذا الشأن قصة رواها الشيخ عبدالله المبارك، ففي إحدى زياراته لأوروبا، سأله دبلوماسي أجنبي عن رأي الكويت في عبدالناصر، فردّ الشيخ عليه قائلاً «هل تسألني عن رأي الكويت أو رأي العرب جميعاً. إن الكويت جزء لا يتجزأ من الأمة العربية بأكملها، وهي تكنّ لعبدالناصر كل اعزاز وحب وتقدير. وأحب أن أقول لكم كلمة: لا تسمعوا لأبواق الدعاية الصهيونية والشيوعية، فعبدالناصر أصبح رمزاً للعزة العربية» (جريدة الأهرام بتاريخ 24 فبراير 1956). لقد استهوت شخصية عبدالناصر القائد قلب الشيخ عبدالله المبارك وعقله، ووصف الشيخ عبدالله المبارك الرئيس عبدالناصر بكلمات تعبّر أصدق تعبير عن احترامه وتقديره له فقال «إن عبدالناصر رجل نذر نفسه لخدمة الأمة العربية، وهو يتفانى في هذه الخدمة غير طالب شيء لنفسه حتى إن بيته المتواضع لم يبدله حتى الآن... إن الإيمان بخدمة العروبة يملأ حنايا نفسه، إن عبدالناصر ليس لمصر وحدها بل للعرب جميعاً» (جريدة الأهرام بتاريخ 14 أبريل 1956 - نقلاً عن مجلة الأحد اللبنانية). وفي مناسبة أخرى، وصف عبدالناصر للسفير البريطاني في سويسرا بأنه «شخص حسن النية وأن عقيدته الإسلامية هي درع أكيد ضد الشيوعية» [From British Embassy in Berne (Evans) to Foreign Office, (Riches). September 6, 1956]. وأنّ صورة الرئيس عبدالناصر «متمثلة في قلوب كل العرب» (جريدة الأخبار بتاريخ 18 أغسطس 1958). وفي أغسطس من عام 1958، زار الشيخ عبدالله المبارك القاهرة، وكان في استقباله اللواء عبدالعزيز صفوت، محافظ القاهرة، موفداً من الرئيس عبدالناصر، وقال الشيخ عبدالله المبارك «إنني أحمد الله على أن يكون وصولي للقاهرة في وقت وثبت فيه القومية العربية وثبة موفقة بنجاح الثورة العراقية»... وأضاف انّ زيارته الرسمية الأولى للقاهرة كانت في عام 1956 وكان «عبدالناصر بطل العروبة قد حطّم آخر قيد من قيود الشعب المصري الشقيق بتأميمه شركة القناة المصرية التي عادت إلى أصحابها الشرعيين بعد نحو قرن من الزمان» (جريدة الأهرام بتاريخ 14 أغسطس 1958). وكان الشيخ يقدر دور مصر المساند لحركات التحرّر العربي، وخصوصاً دعمها لثورتي الجزائر والعراق. (يتبع)
محليات
سعاد الصباح تعقّب على ذكريات أحمد الخطيب (5)
01-08-2007