لم يكد ينتصف القرن السابع الهجري، حتى بدأ عقد الاندلس في الانفراط، واستطاعت الجيوش الاسبانية والاوروبية المتحالفة هزيمة جيش المسلمين في دولة الموحدين، فسقطت قرطبة وبعدها بلنسية وإشبيلية، وشاءت الأقدار أن تظل غرناطة تذود عن دولة الإسلام أكثر من قرنين من الزمان، وأن تواجه ببسالة - على الرغم من صغر المساحة وضعف الإمكانات - الجيش الإسباني بكل ما كان يملكه من قوة وعتاد، وأن تقيم بين ربوعها حضارة عظيمة، حفلت بأرقى نظم الحياة المادية والأدبية، ولاتزال آثارها الباقية شاهدة على ما بلغته غرناطة من تحضر ورقي.

Ad

تتابع الأمراء من أسرة بني النصر على حكم غرناطة، وهي تحاول أن تصمد في وجه إسبانيا وتحافظ على ما بقي من تراث المسلمين في الأندلس، مرة بالجهاد والاستعانة بإخوانهم من أهل المغرب، ومرة بعقد المعاهدة السلمية مع قشتالة.

وظل الأمر على هذا النحو حتى تولى أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر حكم غرناطة، في مطلع القرن التاسع الهجري، وكان أميرا قاسيا اتسم عهده بسوء الأحوال، واشتد سخط الناس، واشتعال الفتن والثورات، وفي خضم تلك الفتن المتلاطمة زحف القشتاليون إلى غرناطة وعاثوا فيها فسادا، ولم يفلح «الأيسر» في رد العدوان عن أرضه، مما كان له أثره في انفجار بركان الثورة في غرناطة، ولم تهدأ الأحوال إلا بعد أن نجح الثوار في عزل «الأيسر» الذي نجا بنفسه وأهله وبعض رجاله إلى «تونس»، وتمت تولية ابن أخيه الأمير «محمد بن محمد بن يوسف الثالث» الملقب بالزغير.

حاول الأمير الجديد أن يعيد الأمن إلى البلاد، ويخمد الفتن والدسائس التي كانت سببا في زعزعة الاستقرار، لكن محاولاته ضاعت سُدى، فقد اتفق الوزير يوسف بن سراج مع «خوان الثاني» ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر السابق إلى العرش، فنجحت المحاولة ورجع السلطان السابق إلى عرشه، غير ان الفتن اشتعلت مرة أخرى وحلت القلاقل أرجاء الإمارة التي انقسمت على نفسها، وألقت قشتالة بجيشها على مقربة من غرناطة، تترقب الفرصة للانقضاض على المملكة التي أوشكت على السقوط، ودُبّرت مؤامرة لخلع الأيسر قام بها خصومه، فالتفوا حول واحد من بيت الملك، يدعى «أبو الحجاج يوسف بن المول» فمال إلى ملك قشتالة طالبا العون على انتزاع العرش لنفسه، في مقابل تعهده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة وتحت طاعته.

وفي (7 من المحرم سنة 835 هـ = 16 من سبتمبر 1431م) وقّعت معاهدة بين «يوسف بن المول» و«خوان الثاني» ملك قشتالة، لتحقيق هذا الهدف، متضمنة بنودا مهينة للطرف المسلم، نصت على إقرار من «يوسف» بأنه من أتباع ملك قشتالة وخُدّامه، وتعهد منه بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار ذهبي، وإطلاق سراح الأسرى المسيحيين، وأن يقدم يوسف ألفي وخمسمئة فارس إلى ملك قشتالة لمحاربة أعدائه سواء أكانوا من النصارى أو المسلمين.

وفي مقابل هذه التنازلات يتعهد الطرف القشتالي بأن يكون الصلح مستمرا طوال حكم يوسف ومن يخلفه من أبنائه، وأن يعينه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وطبقا لهذه المعاهدة وتنفيذا لبنودها تحركت القوات القشتالية لمعاونة يوسف في حربة مع السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معكرة شديدة، انتهت بهزيمة الأيسر، ودخول يوسف غرناطة ظافرا بمؤازرة االقشتاليين، وجلس على عرش السلطنة في (جمادى الأولى 835 هـ = يناير 1432م) وكان أول ما فعله يوسف أن جدّد المعاهدة مع ملك قشتالة باعتباره سلطان غرناطة.

وبهذه المعاهدة قطعت قشتالة خطوة كبيرة في سبيل تحقيق أمنيتها، وإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا، وهذا ما حدث.