Ad

إن الحكمة والرُشد، يقتضيان ألا تدفع الدول الغنية المتبرعة بهذه المليارات إلى الدول الفقيرة نقداً، أو تضع هذه المليارات في حسابها في البنوك، لأنه لا حسابات للشعوب في البنوك؛ فالدول هي الحكام وليست الشعوب، وميزانيات الدول هي ميزانيات الحكام، ولا فصل بين المال العام والمال الخاص، فكله مال الحكام، ولا مال للشعوب.

مشكورة هي الدول الصناعية العظمى الثماني التي زادت مساعدتها للدول الفقيرة، لتصل إلى خمسين مليار دولار، بينما تقوم في الوقت نفسه بإلغاء جزء كبير من هذه الديون المتراكمة على الدول الفقيرة، كما سبق وأُعلن في قمة اسكتلندا في 2005. وهذا يُعدُّ في حد ذاته حدثاً كبيراً، ولكن لا ينبغي لنا أن ننخدع بالشهامة الظاهرية لهذا الإجراء، ذلك أن قدراً كبيراً من تلك الديون، ما كانت الدول الفقيرة قادرة على سداده بأي حال، بعدما أصبحت هذه الديون في حسابات وجيوب الدكتاتوريين من حكام الدول الفقيرة. فمن الثابت تاريخياً أن قدراً كبيراً من المعونات الأجنبية للدول الفقيرة، لم يكن يُقَدَّم لتعزيز النمو، بل لشراء الصداقات، وعلى نحو خاص أثناء الحرب الباردة، كما قال جوزيف ستيغليتز الفائز بجائزة «نوبل» في الاقتصاد، والنائب الأول السابق لرئيس البنك الدولي؛

فأين ذهبت هذه المليارات كلها التي قدمها العالم الحر إلى الدول الفقيرة في السابق؟ ولماذا لا يُعاد النظر في كيفية دفع هذه المليارات إلى الدول الفقيرة، حتى تكفل الدول المتبرعة وصول هذه المليارات إلى بطون الشعوب، وليس إلى جيوب وحسابات الحكام الدكتاتوريين في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي؟

ولماذا لا تكون هذه المليارات على شكل مشروعات زراعية وصناعية وصحية وتعليمية ولبناء البنية التحتية للشعوب الفقيرة، تقوم بتنفيذها شركات من الدول المانحة، موصوفة بالنـزاهة والشفافية والمصداقية في التنفيذ، وعدم دفع رشاوى وعمولات و«خوّات» للأجهزة الحاكمة الدكتاتورية السارقة والناهبة والمفسدة؟

ألم تسأل دول العالم المانحة لهذه المليارات من الدولارات، أين ذهبت المليارات السابقة التي قدمتها في السنوات السابقة إلى الدول الفقيرة؟

أيها الكرماء: لا تدفعوا نقداً

لقد تساءلت الدول المانحة هذه الأسئلة، بعد أن سرق السارقون، ونهب الناهبون، وأدركت أخيراً ضرورة إصلاح حكومات الدول الفقيرة، وربط التبرعات بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وأنه «لا أحد يريد أن يعطي نقوداً إلى دول فاسدة، إذ يسرق الرؤساء النقود، ويضعونها في جيوبهم وحساباتهم»، كما قال الرئيس بوش صراحةً في اجتماع قمة الدول الثماني الغنية الكبرى G8 في اسكتلندا.

إن الحكمة والرُشد، يقتضيان ألا تدفع الدول الغنية المتبرعة بهذه المليارات إلى الدول الفقيرة نقداً، أو تضع هذه المليارات في حسابها في البنوك، لأنه لا حسابات للشعوب في البنوك. فالدول هي الحكام وليست الشعوب، وميزانيات الدول هي ميزانيات الحكام، ولا فصل بين المال العام والمال الخاص، فكله مال الحكام، ولا مال للشعوب.

إذا أرادت الدول المانحة أن ترى أثر نعمتها على الدول الفقيرة، فعليها أن تقدم لها مشاريع تنموية، لا نقوداً؛ عليها أن تُرسل إلى هذه الدول شركات المقاولات، لتبني المدارس والمعاهد والجامعات. فالحكام الدكتاتوريون، لا يستطيعون سرقة حجارة المدارس والمعاهد والجامعات، وأبوابها، وفصولها، ومختبراتها، ومكتبتها، وأقلامها، ودفاترها.

عليها أن تُرسل إلى أبناء هذه الدول شركات المقاولات لتبني لهم المستشفيات والمصحّات والعيادات المتخصصة، وترسل إليهم الأدوية، فالحكام الدكتاتوريون، لا يستطيعون سرقة أسرّة هذه المستشفيات، وعياداتها، وأدويتها، وغرف عملياتها، و«جاكتات» أطبائها، وسماعاتهم، ولباس رأس ممرضاتها.

عليها أن تبني لهم الجسور، وتمدّ لهم الطرقات، بواسطة شركات المقاولات؛ فالحكام الدكتاتوريون لا يستطيعون سرقة الجسور والطرقات، وبيعها في سوق الخردة.

عليها أن تقضي على الأمية، وتبني المكتبات، وتنشر الكتب والصحف الحرة والديموقراطية، لكي تُعلِّم الناس «ألف باء» الحرية، وألف باء الديموقراطية، وألف باء الحداثة، وتبعدهم عن التعليم الديني الظلامي الذي يُفقّس الإرهابيين كل يوم، كما يُفقّس البعوض يرقاته الهائلة العدد.

عليها أن تختار من شركات المقاولات ما عُرف بالنـزاهة وعدم الرضوخ لإكراهات الحكام وأركان الأنظمة (أهل الزمان) الذين يتقاضون الرشاوى والعمولات و«الخوّات» وأن تضع كل شركة تدفع فلساً أحمر لأي جهة حكومية أو رسمية في القائمة السوداء، ويتمَّ التشهير بها، وبمن قبض وصرف.

آمال الخبراء الخائبة

بهذه الخطوات سوف ترى الدولة المانحة للهبات بمليارات الدولارات، أثر نعمتها في الشعوب الفقيرة. لذا، فأنا أعارض شطب ديون الدول الفقيرة ما لم تتم إصلاحات سياسية تقتلع الدكتاتورية والحكام اللصوص من هذه البلدان؛ لأن شطب هذه الديون يعني أن تصبح الأموال المسروقة التي في جيوب الحكام الدكتاتوريين حلالاً زلالاً عليهم، وتسمح لهم بسرقة المزيد من هذه الأموال القادمة في المستقبل.

كما أن تدفق هذه الأموال على الدول الفقيرة يشجع الطامعين في الحكم من اللصوص على الخروج من ثكنات الجيش واعتلاء سدة الحكم، لا حباً في السلطة وأخطارها، ولكن حباً في أموال السلطة ونعيمها.

فهل تريد الدول الغنية المانحة أن تشجع الحكام الدكتاتوريين على مزيد من النهب والسرقة، لكي تشتري سكوت الحكام، ولكي تمرر مخططات الاستعمار، كما يقول لنا الأصوليون من الدينيين والقوميين؟ وماذا فعلت الدول الفقيرة بكل هذه الأموال التي سبق أن قدمتها الدول الغنية المانحة؟

أما أن يرى الخبراء أن الدعم سيكون مفيداً إذا توافرت الخطط والإدارات المناسبة ومشاركة المواطن في صياغة المشروعات الإنمائية، وإذا توافرت أيضا شروط انفتاح أسواق الشمال والبلدان الغنية أمام منتجات البلدان الفقيرة، لاسيما تلك التي تكتسب ميزة التنافسية العالية مثل المنتجات الزراعية والصناعات التحويلية... فهذه الخطط جميعها لضمان وصول الأموال إلى منافع الشعوب الفقيرة هي من صنع خيال الخبراء، الذين لا يدركون عتو الحكام الدكتاتوريين وطغيانهم في الدول الفقيرة. 

الجوع والموت رغم المليارات

لقد أُطيح بالحكام الدكتاتوريين في بلادهم بالطرد أو بالموت أو بالاغتيالات، وقد سرقوا كل الهبات والمنح والأموال التي قُدمت إلى دولهم، وأودعوها في حساباتهم في مصارف سويسرا. ولو كان لهذه المصارف أو لهذه الحسابات ألسنة تتكلم، لسمعنا ما يشيب له الولدان!

نسوق مثالاً واحداً، يكفي ويعفي ويفي، فقد أصدرت المحكمة العليا في سويسرا أمراً إلى البنوك السويسرية بإعادة 458 مليون دولار، مودعة في حساب دكتاتور نيجيريا السابق ساني أباتشي، الذي مات من تأثير منشط «الفياغرا»، وكانت حكومة نيجيريا المنتخبة قد تقدمت بطلب إلى البنوك السويسرية والأوروبية للحجز على حسابات الحكام العسكريين وإعادتها إلى الخزينة النيجيرية، لتمويل الخدمات الصحية والتعليم والبنية التحتية.

ويذكر بعض الخبراء طبقاً لتقارير إعلامية، نُشرت عشية قمة الدول الصناعية (يوليو 2005) أن ودائع أثرياء القارة الإفريقية في الخارج، تصل إلى نسبة 40% من ممتلكاتهم. لذلك، فإن الشكوك تطول أيضا قدرة البلدان المعنية على الإفادة من الدعم الخارجي، وبعضها يعتمد أساساً على المعونات الخارجية على مدى عقود. ولايزال بعضها الآخر يحتاج إلى المساعدة، لكنه يفتقد القدرة على استيعاب المعونات الخارجية، ولا يمتلك كفاءات وضع برامج الإنماء المطلوبة.  

* كاتب أردني