أمل دنقل

نشر في 02-05-2008
آخر تحديث 02-05-2008 | 00:00
 محمد سليمان في أوائل السبعينيات كتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة «أغنية الكعكة الحجرية» التي استهلها بقوله:

أيها الواقفون على حافة المذبحة

أشهروا الأسلحة

سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة

و الدم انساب فوق الوشاح

المنازل أضرحة

والمدى أضرحة

فارفعوا الأسلحة.

وأدى نشر القصيدة إلى إغلاق مجلة «سنابل» التي كان يصدرها ويرأس تحريرها الشاعر محمد عفيفي مطر... كانت المظاهرات في ذلك الوقت مشتعلة ضد الرئيس السادات وسياساته، واعتبرت القصيدة عملاً تحريضياً ضد النظام الذي كان من جانبه قد أغلق كل المجلات الثقافية، وأعلن حرباً على المبدعين والكتّاب القوميين والتقدميين، لكن القصيدة واصلت الرحيل والانتشار وترسيخ وجه أمل دنقل وصوته الشعري، وساهم الاحتفاء بها على ما أظن في رسم إطار لقصيدة المقاومة ومفهوم المقاومة نفسه، ساعد على ذلك المناخ السائدة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات الذي كان يرحب بقصائد التحريض والهجاء السياسي، وبسبب هذا الإطار تبدلت المسارات الشعرية لعدد كبير من الشعراء، وبسببه أيضا لم يلتفت الباحثون والنقاد إلى مجمل تجربة أمل وقصائده التي تحتفي بالحياة والحب والوجود، والمشحونة بالحس الإنساني، خصوصا في دواوينه «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» و«العهد الآتي» و«أوراق الغرفة»:

الشهور زهور على حافة القلب تنمو

وتحرقها الشمس ذات العيون الشتائية المطفأة

زهرة في إناء

تتوهج في أول الحب بيني وبينك

تصبح طفلا وأرجوحة وامرأة

زهرة في الرداء

تتفتح أوراقها في حياء

عندما نتخاصر في المشية الهادئة.

من التراث العربي والسير الشعبية استمد أمل دنقل العديد من الأقنعة التي أعاد بها قراءة الواقع ومواجهته، وبعض قصائد الشاعر تجبر الباحث والقارئ على اختيار المدخل التراثي لتحليل النص الشعري وسبر أغواره، فقصيدة أمل دنقل الشهيرة «لا تصالح» قد ترسخ لدى بعض الناس الرغبة في تأييد الصراع وتقديسه، ورفض كل أشكال السلام خاصة، والشاعر يقول:

لا تصالح ولو قلدوك الذهب

لا تصالح على الدم حتى بدم

لكن الرجوع إلى التراث وسيرة «الزير سالم» الشعبية يرشدان القراءة ويفتحان أفقا أوسع للتأويل، لندرك أن أمل كان أيضا يسخر من عبثية الصراع واستمراريته، وعدم جدواه منطلقا من صيحة كليب المطعون «لا تصالح» التي تتكرر عشر مرات في قصيدته الموجهة إلى أخيه المهلهل «الزير سالم» وهي أيضا الصيحة التي تؤيد الصراع وتقدّس الانتقام.

في بداية السبعينيات توطدت علاقتي بأمل دنقل، كنت شاعراً مبتدئا في ذلك الوقت، وكان ديوان أمل الثاني «تعليق على ما حدث» قد صدر ليساهم في ترسيخ صوته الشعري، وقد أفادني أمل كثيراً عندما ناقش بعض قصائدي وقدّمني إذاعيا عام 1972، وعندما أدخلني ورشته الشعرية وأنارني بمسودات قصائده وعلمني المراجعة والحذف وإعادة الكتابة.

بسبب إغلاق المجلات كانت قراءة القصائد في الأمسيات الشعرية وأحيانا في المقاهي هي السبيل الوحيد لمتابعة الجديد، وقد بدأت علاقتي بأمل في إحدى هذه الأمسيات، وأذكر أن صلاح عبدالصبور قرأ علينا ذات ليلة مخطوط ديوانه «شجر الليل» في الجمعية الأدبية المصرية قبل نشره في بيروت، وفي ليلة أخرى قرأ مسرحيته الشعرية «بعد أن يموت الملك»... فاستبدال الإنشاد والإلقاء بالنشر أدى على ما أظن إلى انشغال معظم الشعراء بجماليات الإنشاد والإلقاء، وفي مقدمها الأوزان والقوافي والمباشرة أحيانا على حساب القيم الجمالية الأخرى، وأدى أيضا إلى محاربة الغموض بكل أشكاله ومستوياته، وقد ظلت قضية الغموض مثار خلاف دائم بين أمل وبيني، فقد كان يربط الغموض بالفشل، ويقول القصيدة الغامضة قصيدة فاشلة لأنها لن تصل إلى القارئ ولن تؤثر فيه، ولن تحقق للشاعر النجاح الذي كدّ من أجله.

وبالإضافة إلى الغموض وقضايا الشعر الأخرى كانت هناك أيضا قضية التفرغ، فقد كان أمل يعلن أن كتابة الشعر مهنة عظيمة تستحق التفرغ من أجلها، وأن على الشاعر الذي يحترم نفسه وشعره أن يرفض الالتحاق بوظيفة أخرى، وأن ينشغل فقط بكتابة الشعر وإلقائه وترويجه، وكان يغضبه تشبثي بالعمل وإشاراتي إلى كبار الشعراء والمبدعين الذين يعملون في وظائف ومهن مختلفة لكسب قوتهم وحريتهم واستقلالهم أيضا. في مقهى ريش كان أمل يسأل عندما يمر أو يغادر المقهى أحد الشعراء «هل تحفظ له قصيدة أو تتذكر عناوين دواوينه؟» وعندما أهز رأسي نفياً يبتسم قائلاً إنه واحد من الأحياء الموتى، لكن الشاعر الحقيقي والشاعر الشاعر هو الذي إذا ذكر اسمه قفزت من الذاكرة قصائده وعباراته وعناوين دواوينه، وأظننا بعد رحيل أمل في مايو 1983 أي قبل ربع قرن نستطيع أن نقول إنه كان ومازال واحداً من الشعراء الشعراء.

* كاتب وشاعر مصري

back to top