في برنامج اليسار الإسلامي تأتي العدالة الاجتماعية كمطلب ثالث بعد تحرير الأرض كمطلب أول، وحرية المواطن كمطلب ثان نظراً للتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء قبل الطفرة النفطية وبعدها، فأفقر فقراء العالم من المسلمين، وأغنى أغنياء العالم منهم أيضاً، ويموت الملايين جوعاً وقحطاً وعرياً في الصحراء في جنوب السودان والصومال ومالي وتشاد وبنغلاديش، وتتراكم التريليونات والمليارات من عوائد النفط، وهو ما يتنافى مع وحدة الأمة.

Ad

وتكثر الآيات والأحاديث والأقوال والمأثورات التي تعطي الفقراء حقهم في أموال الأغنياء، إذ يقول الله في كتابه الحكيم: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ». وفي الحديث: «قلنا يا رسول الله، أفي المال حق غير الزكاة؟ قال: نعم، في المال حق غير الزكاة».

فالزكاة هي الحد الأدنى لدوران رأس المال في المجتمع وليس الحد الأعلى الذي تحدده حاجات الاستثمار لمصلحة الجميع، كما وردت أقوال ضد الفقر كما قال علي رضي الله عنه: «لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته»، وما ورد عن الأفغاني لأبي ذر «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهراً سيفه!». وهو نقيض ما تتجه إليه الثقافة الشعبية كما يتضح في الأمثال العامية مثل: «الفقر حشمة، والعز بهدلة».

يكفي تحليل لفظ «مال» في القرآن الكريم لمعرفة قدر المشاركة في الأموال بين الناس وتحريم أن ينحصر في حفنة من الأغنياء، «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ». فقد ذكر اللفظ ستاً وثمانين مرة مما يدل على أهمية الموضوع. ولا يضاف إلى الضمائر أكثر مما يضاف إليها مما يدل على أن المال ليس موضوعا للملكية، وأكثر الضمائر إضافة إلى المال هو ضمير الغائب للجمع في صيغة «أموالهم» وهم الغائبون، جمهور الفقراء. ولم يضف إلى ضمير المتكلم إلا مرة واحدة وبمعنى سلبي، هلاك المال: « مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ». بل إن اللفظ نفسه لفظ مركب من حرف الصلة «ما» وحرف الجر «ل» مما يدل على أنه إضافة ونسبة، وليس جوهراً وشيئاً. المال وظيفة وليس ملكية. هي أموال الناس وأموال اليتيم واليتامى والفقراء والمحتاجين ومن لا عائل لهم. المال مال الله لا يملكه أحد من البشر، للإنسان حق الانتفاع والاستثمار والصرف، وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز، لذلك حرم الربا لأن المال لا يولّد المال من تلقاء نفسه بل عن طريق الجهد والعمل والإنتاج. المال من دون نفع مجرد زينة وتفاخر مثل البنين والأولاد. اللفظ يأتي مجروراً لأنه نسبة وإضافة، ومنصوباً لأنه منوط الجهد والإنفاق.

فالمال مال الله يورثه لمن يشاء من عباده الصالحين، وليس وراثة أو نهباً أو تهريباً أو احتكاراً، فهو وديعة للصرف وليس قيمة مختزنة في حد ذاتها، وهو مشاركة بين الناس: «وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ». وليس استحواذاً أو اكتنازاً وتراكماً، «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا». وشرط الإيمان الصدق في المعاملة وعدم أكل أموال الناس بالباطل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ». المال مال اليتامى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا». ولا تترك الأموال بأيدي السفهاء للتبذير والاستهلاك: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ». وخلاص الإنسان بالعمل الصالح وليس بما يملك من أموال: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا». فالمال فانٍ والعمل الصالح ثابت، يتركه الإنسان وراءه ولا يأخذ معه إلا العمل الصالح.

تؤكد استعمالات لفظ المال إذاً معاني ثلاثة: الأول، المال حق الله، وحق الآخر، وواجب استقلال الشعور الذاتي عنه... فالمال مال الله وليس ملكا لأحد، وللإنسان حق التصرف والانتفاع والاستثمار، فإذا ما استغل أو احتكر أو اكتنز فمن حق السلطة الشرعية استرداد الوديعة بالتأميم والمصادرة للمصلحة العامة، وهو حركة اجتماعية وسيولة بين أفراد الجماعة ولا يجوز اكتنازه أو احتكاره أو الاحتفاظ به، ومن حق السلطة الشرعية مصادرته لتدويره للمصلحة العامة. فالملكية ليست حقاً طبيعياً بل أمانة ووديعة واستخلاف: «وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

وفي النظم الإسلامية: ما تعم به البلوى لا يجوز امتلاكه ملكية فردية مثل الماء والهواء والزرع طبقاً لحديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»، أي الزراعة والصناعة. وهما أهم قطاعات الإنتاج. وما يوجد في باطن الأرض مثل المعادن لا يجوز أيضا امتلاكه على نحو فردي لأن شرط الملكية التحرك في السوق، وقد عرف القدماء الذهب والفضة والنحاس والحديد وعرفنا نحن النفط. والإقطاع هي مراعي الدولة المشاع التي يحق لكل إنسان الرعي فيها من دون امتلاكها مثل القطاع العام.

طريق التنمية للأمة ولتحقيق العدالة الاجتماعية ليس هو الطريق الرأسمالي، والاقتصاد الحر: «دعه يكسب، دعه يمر» بل هو طريق التخطيط والتوجيه والملكية العامة لوسائل الإنتاج. والشائع عند الناس بل لدى الحركات الإسلامية المعاصرة أن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام رأسمالي يقوم على حرية التجارة والكسب الحلال. فالرزق من الله، والتسعير من الله. والطبقات الاجتماعية طبيعية: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ»، وليس في العلم والفضيلة وحدهما. وكل كسب حلال بصرف النظر عن مصدره. والزرق مقسوم ومقدر من قبل، لا يمكن تغييره زيادة أو نقصاً «يا متعوس يا متعوس غير رزقك ما تحوش»، ومادامت زكاة المال تؤدي، %2.5 فالباقي %97.5 حلال. وهو ما يتفق مع بعض الأمثال العامية «التجارة شطارة»، بالرغم من نقد ابن خلدون أخلاق التجار، واعتبار التجارة خدمة لا سلعة، غير منتجة عكس الزراعة والصناعة.

إن الطريق الرأسمالي للتنمية في البلاد النامية مرتبط أشد الارتباط بتراثها القديم وبثقافتها الوطنية، وهو قادر على إقامة نظام اقتصادي يرعى مصالح الأغلبية. لذلك ظهرت دعوات «اشتراكية الإسلام» أو «الإسلام والاشتراكية» من بعض المفكرين الإسلاميين الاشتراكيين مثل مصطفى السباعي في سورية وسيد قطب وعبدالرحمن الشرقاوي في مصر للتأكيد على الطابع الاشتراكي للإسلام. وهو ما يستأنفه اليسار الإسلامي، ويعيد تأكيده لحل قضية التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء في الأمة: «ليس منا من بات شبعان وجاره جائع».

لا يعني انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي آسيا أي خلل في النظام الاشتراكي وفي قيم العدالة الاجتماعية بل في طرق التطبيق الآلي التسلطي المادي لها، فالاشتراكية قيمة إنسانية كما الإسلام حين أعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن كلهم لآدم وآدم من تراب. وتلك الدلالة العامة للإحرام في الحج، إمحاء الفردية لمصلحة الجماعة. لباس واحد، طبقة اجتماعية واحدة، قبلة واحدة، أمة واحدة، وإله واحد.

* كاتب مصري