Ad

تشرد الروائي السوري حنا مينة سنوات طويلة في بلاد غريبة بحثاً عن بضع ليرات، وحصل خيري شلبي من بيع رواياته للسينما على أقل مما يناله ممثل كومبارس، وكان أمل دنقل ونجيب سرور يهيمان على وجهيهما جائعين مريضين في شوارع القاهرة المفتوحة على الغربة والضياع.

لا يمكن لتاريخ الثقافة العربية أن يتجاوز مشهداً أعيد إنتاجه مع تتابع القرون بشروط مختلفة في الدرجة، ولأسباب متنوعة، مشهد طالما وخز ضمائر حية، وارتجفت له قلوب رحيمة، ووجد فيه كثيرون دليلاً ناصعاً على بؤس علاقة المثقف بالسلطة. إنه المشهد الذي يجسد حركات ونبضات أبي حيان التوحيدي، وهو يجثو على ركبتيه ليأكل من حشائش الأرض، ووراءه يتصاعد دخان كتبه العميقة علماً والمتفجرة إحساساً، بعد أن أحرقها لأنها لم توفر له ثمن لقيمات يقمن صلبه المكدود من عناء البحث عن المعرفة.

إن النار التي أحرقت ما أنتجته قريحة التوحيدي المتوقدة، لم تتوقف ألسنتها المشتعلة عن الامتداد في الزمن، لترمز إلى احتجاج لا يتوقف من مثقفين وعلماء جوعى ومرضى، يطيلون النظر في أغلفة كتبهم أو لوحاتهم البديعة أو ابتكاراتهم العلمية، من دون أن يمتلك أحدهم شجاعة التوحيدي، ويطعم النيران الورق أو الألوان، وربما لم يجرف أحدهم اليأس إلى تلك الدرجة المتردية من القنوط، التي يشعر فيها المثقف بعدم جدوى ما يفعله، لا للمجتمع، ولا لنفسه، ولا لذويه.

ففي زماننا هذا تجول الأديب المغربي محمد شكري على القمامة ليلتقط ما يقيم أوده. وبات الشاعر المصري عبدالحميد الديب ليالي طويلة خاوي البطن. وأكل العجز والكساح الروائي الكبير عبدالحكيم قاسم، من دون أن يلقي له أحد بالاً، رغم موهبته المتوحشة وإنتاجه الأدبي الغزير. ولم يجد الروائي الجميل علاء الديب ما يدفعه لعلاج مرض عضال أصاب قلبه، وهو الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في مصر. واستشهد فارس الرومانسية الروائي محمد عبدالحليم عبدالله على يد سائق تاكسي لخلاف على قيام الأخير بزيادة الأجرة بمقدار خمسة قروش فقط. وتشرد الروائي السوري حنا مينة سنوات طويلة في بلاد غريبة بحثاً عن بضع ليرات، وحصل خيري شلبي من بيع رواياته للسينما على أقل مما يناله ممثل كومبارس، وكان أمل دنقل ونجيب سرور يهيمان على وجهيهما جائعين مريضين في شوارع القاهرة المفتوحة على الغربة والضياع، وباع أدباء العراق كتبهم في زمن الحصار، وباع كثيرون ضمائرهم وقناعاتهم تحت ضغط الحاجة الملحة للغذاء والدواء والكساء والإيواء. وداخل أسوار الجامعات المصرية الحبيسة، وفي مراكز الأبحاث المهملة، آلاف العقول المتوقدة، لعلماء أجلاء، قلوبهم عامرة بحب الوطن، وأذهانهم مشغولة بالتجارب والاكتشافات، وجيوبهم خاوية، وأياديهم على أفواههم المقددة، بحثاً عن حد الكفاف، في بلد ينفق على الرقص أضعاف ما يدفع للبحث العلمي.

إنها مشاهد متناثرة، لا تشكل سوى أمثلة قليلة لهوان المثقف وفقره، وانسحاقه أمام ظروف قاهرة، يضيع جل وقته في ترويضها، أو التحايل عليها، وقد يستسلم لها في خاتمة المطاف. ويمتد هذا التحايل أو ذاك الانسحاق مع المواقف السياسية والاجتماعية الكلية إلى المسائل المرتبطة بنشاط المثقف نفسه، أو ما ينتجه من إبداع. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن شعراء العامية، في عالمنا العربي، يهجرون أحيانا، هذا اللون من الأدب، نظرا لعدم إقبال المجلات الثقافية على نشره، ويلجؤون الى كتابة القصائد الفصحى، سواء كانت نثرية أم عمودية، حتى يحصلوا على مقابل مادي لإنتاجهم الأدبي. وينطبق هذا الأمر أيضا على القصة القصيرة، فنظراً إلى اعتبارات المساحة، فإن فرصة نشرها تبدو أكبر بكثير من فرصة نشر الرواية، ولذا يُقبل الروائيون عليها، أحيانا، طلباً للرزق. ويهجر الشعراء والروائيون الكتابة الإبداعية إلى المقال الصحفي السيار، لأنه الأكثر دراً للمال، أو الأكثر طلباً عند جماهير تردى ذوقها العام إلى مستوى مخيف.

ومع هذه الندرة وضيق ذات اليد تسيطر قلة متوحشة على سوق النشر، فتفتح الباب لمن تريد، وتوصده أمام من لا ترغب، وتسيطر شلة متجبرة على مجال الجوائز الأدبية، فتعطيها للأتباع المنقادين، وتحجبها عمن يستحقونها عن جدارة وتمكن، وتنشأ شلل أخرى، تتعاون مع المباحث، وتكتب التقارير أكثر مما تكتب القصائد والحكايات، وتوجد في مقار الأمن أكثر مما تستقر على المكاتب والمقاهي، وتسعى إلى خنق كل المنافسين المحتملين، وتمد جسوراً مع السلطة، كي يصبح المثقفون بوقها الذي لا يكف عن النفخ والزعيق، في مقابل ثمن بخس، قد يكون طبع كتاب أو رواية في مؤسسات الحكومة الغارقة في الديون حتى آذانها، أو إعطاء منحة تفرغ، أو جائزة هزيلة سرعان ما يلفها النسيان، أو قضاء ليال قصيرة في فنادق باردة، بدعوى حضور مؤتمرات وندوات لا تثمر عن شيء، ليتحول المثقفون كلهم إلى «طيور ترتضي أن تعيش حول الطعام المتاح» كما يقول أمل دنقل، بعد أن ارتخت المناشير والمناقير، فتصير الصقور عصافير مهيضة الأجنحة، وتصبح العصافير ذباباً يطن فوق أوطان خربة.

 

كاتب وباحث مصري