أكلوا ما عندكم...
وسط التفاوت في حجم احتياطي البترول والعجز المتوقع للتأمينات الاجتماعية وأزمات الماء والكهرباء والطوارئ نسمع بمن ينادي (ويعد) بتعديل الكوادر الحكومية! على أي أساس؟ وبناء على أي دراسة؟ وما الفائدة أو العائد المتوقع؟منذ سنوات أطلقت الحكومة مشروع دعم العمالة الوطنية لتشجيع عمل الكويتيين في القطاع الخاص، كمحاولة لتنمية العمالة الوطنية وحماية الاقتصاد وتخفيف ضغط التوظيف في المؤسسات الحكومية. وبناء عليه تم فرض شروط على القطاع الخاص لتعيين نسب معينة من الكويتيين، وتم رصد ميزانيات هائلة لإعادة تأهيل وتدريب الكويتيين الراغبين ولصرف بدل دعم العمالة لتشجيع العمل في القطاع الخاص. وقبل عقود أنشأت الحكومة بنك «الكويت الصناعي»، ومحفظتي المشاريع الصغيرة والحرف اليدوية والزراعة، من باب تنشيط قطاع الصناعة، وتشجيع العمل الحر، وتخفيف الضغط على التوظيف الحكومي أيضاً.
فشل الجهاز الحكومي بشكل عام، وعجز الميزانية، والدراسات العديدة حول البطالة المقنعة وانعدام إنتاجية الموظف الحكومي كلها، تصب باتجاه ضعف الأداء الفردي والجماعي في المؤسسات والهيئات الحكومية، ولا تشير إلى أي شكل من اشكال المسؤولية أو المساءلة أو -لا سمح الله- المبادرة. فلم زيادة الرواتب؟تراجع المؤسسات رواتبها وسياسات التعويضات لديها في الحالات التالية: (1) المحافظة على وضع تناسقي في سوق العمل وإبقاء الرواتب والمزايا بمستوى المؤسسات المنافسة أو أعلى؛ (2) استقطاب الكفاءات والمتميزيين في سوق العمل؛ (3) تعويض العاملين بما يتناسب وزيادة مسؤولياتهم ودرجة المساءلة الملقاة على عاتقهم أو؛ (4) معادلة الراتب بحسب درجة غلاء المعيشة وتلك عادة زيادات دورية وبسيطة جداً. فأي من ذلك ينطبق على موظفي الحكومة ومؤسساتها؟إن كانت سياسة الدولة الفعلية هي تشجيع القطاعين الحكومي والخاص، فإن التنافس مع هذين القطاعين في الرواتب يتصادم مع تلك السياسة، بل ويعرقلها. فمن غير المنطقي أن نشجع القطاع على استقطاب الكفاءات الوطنية ثم نتنافس أو نضع العراقيل في وجه ذلك. ومن ناحية عملية لا يمكن للقطاع الحكومي التنافس بشكل دائم مع القطاع الخاص لما يشكله ذلك من ضغط على ميزانيات الدولة دون مردود مقبول أو معقول لهذا الاستثمار. الأهم، ان القطاع الحكومي لا يحتاج إلى التنافس مع القطاع الخاص في الرواتب لتوافر «مزايا» أخرى مثل الضمان والاستقرار الوظيفي، وسرعة التقاعد، والزيادات الدورية والعلاوات بالأقدمية التي ليس لها علاقة بالأداء أو حتى الدوام، والإجازات، وضعف الإشراف والمساءلة والانخفاض النسبي للجهد الفكري والعضلي المطلوبين. وهي «مزايا» براقة لقطاع كبير من العاملين. أما إن كانت تلك الزيادات هي مكافأة على الإنجاز أو زيادة المهام... فالسؤال أين الإنجاز؟ وهل شارك الكل فيه- إن وجد؟ في علم التعويضات، هنالك وسائل وحلول كثيرة لمكافأة الإنجاز والتميز وقلما تترجم إلى زيادة عامة في الرواتب. فنظم إدارة الأداء والحوافز والمكافآت الحولية والعلاوات والبدلات المرتبطة بالأداء تمثل حلولاً أسلم وأكثر فعالية وأقل ضرراً بالميزانية العامة.وقد يرى بعضهم أن هنالك وظائف (مثال: الأطباء والمهندسين) ومؤسسات حكومية (مثال: البنك المركزي والهيئة العامة للاستثمار) تتطلب كفاءات ومهارات خاصة وشحيحة في السوق، وعليه يتوجب على الحكومة منافسة الآخرين على تلك الكفاءات، خصوصا تلك التي تشكل معدلات تسرب عالية. وأتفق مع ذلك تماماً، إلا أن الحل لا يأتي بالزيادة العامة والشاملة. الحل الأسلم هو وضع كوادر خاصة للتخصصات النادرة أو الحيوية ورفع العلاوات والمكافآت المرتبطة بالأداء لتشجيع التطور والإنجاز.إن الاستمرار في رفع الراوتب الحكومية سيؤدي إلى كوارث قصيرة وبعيدة الأمد. على المدى القصير سوف يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم، وخفض القدرة الشرائية للفرد، وتزايد الأعباء على الميزانية العامة. وعلى المدى الأبعد يشكل ذلك خطرا على القطاع الخاص واقتصاد الدولة وتنوع مصادر الدخل، كما أنه يعزز لدى الكويتيين الاتكالية والمادية، وما يجر ذلك من أمراض اجتماعية وسياسية. فمن الأحرى بصناع القرار استثمار تلك الأموال لتدعيم البنى التحتية والخدمات العامة (التعليم، الصحة، الكهرباء والماء... الخ)، وتنمية استثمارات ومدخرات الأجيال القادمة، وتأهيل الشباب للعمل الخاص والحر، وبناء مجتمع فعال ومنتج. ولنتوقف عن التفكير بعقلية «أكلوا ما عندكم، ترى الحشر باكر»!!