Ad

المظهر الأقسى والأكثر مرارة هو تحول من بيدهم الأمر في بعض البلاد العربية إلى حال شبيهة بما كان عليها المستعمر الأجنبي، من حيث البون الشاسع بين من هم في سدة الحكم وبين شعوبهم، أو في النهب المنظم لقدرات وإمكانات هذه الشعوب لحساب زبانية يقام بينها تحالف غير مقدس.

بعد أكثر من نصف قرن من بداية حركات الاستقلال في بلادنا عاد العرب إلى المربع الأول، وكأن عدة عقود من الزمن رفعت فيها شعارات البناء والتنمية المستقلة والحرية قد ذهبت سدى، وباتت أغلب الشعوب العربية في حاجة إلى التفكير في ثورات جديدة، أو على الأقل جراحات سياسية واجتماعية عميقة، يمتلك فيها الناس ناصية القرار، ويتولون زمام أنفسهم، ويسلكون الطريق المثلى التي مرت بها شعوب أخرى، فارتقت درجات متقدمة، وحسنت من شروط الحياة في بعديها العام والخاص.

وللعودة إلى المربع الأول مظاهر شتى، في مطلعها وقوع بلاد عربية في براثن الاحتلال من جديد، فالعراق تحتله قوات غربية تقودها أميركا، والصومال تحتله قوات إثيوبية موكلة من قبل الأميركيين، وعلى السودان يضيق الخناق، حتى تنفتح ثغرة في جدار التصدي فتدخله قوات غربية، تحت لافتات حميدة وشعارات براقة في تزييف جلي للواقع، وإخفاء مقصود ومدروس للأهداف الحقيقية من دخول دارفور، ودفع جنوب السودان وشرقه إلى الانفصال. ولبنان ليس بمنأى عن هذا، فطوائف وتيارات سياسية لبنانية تعطي قلبها وعقلها للخارج، وترى في شعوب وراء البحار ما هو أقرب إليها من شركاء الوطن والتراب. ودول عربية كثيرة تعاني «استعمارا جديدا» يلبس لبوس التبعية، والرضوخ للهيمنة الأجنبية، إما رضوخا سياسيا واقتصاديا في بعض دولنا، أو رضوخا اجتماعيا وثقافيا في أخرى.

والمظهر الثاني هو سقوط الشعارات الكبرى التي رفعتها حركة التحرر العربي، وفشل البرامج التي تبنتها في أن تصمد أمام التغيرات الداخلية والخارجية، وتحقق ما تصبو إليه الشعوب. فها هي ثورة يوليو المصرية، التي فتحت الباب أمام ثورات العرب وكفاحهم لنيل الاستقلال، تنتهي إلى أطلال، لا تستحق سوى الرثاء، فعبد الناصر ورفاقه رفعوا شعار «حرية اشتراكية وحدة» كلافتة عريضة للعرب جميعا من الخليج «الثائر» إلى المحيط «الهادر»، ورفعوا مبادئ ستة لثورتهم، في مطلعها «إقامة حياة ديموقراطية سليمة»، لكن الحرية لم تتحقق، بل صودرت لحساب السلطة، فصارت فقط هي حرية الحكام في أن يفعلوا بشعوبهم ما يشاؤون، والاشتراكية داسها الانفتاح الاقتصادي في زحفه نحو تدشين رأسمالية عربية مشوهة، يقودها رجال أعمال لا يلتفتون كثيرا إلى الاحتياجات الحقيقية لمجتمعاتهم. والوحدة انتهى بها المطاف إلى أن يرضى العرب بالحد الأدنى من التنسيق بينهم، ويقولون جميعا بملء أفواههم إن جامعة الدول العربية كيان هش مريض، لكن بقاءها على قيد الحياة، حتى لو في غرفة الإنعاش، أفضل من حلها، أو فض هذا السامر العربي، الذي تغلب عليه المجاملات، أكثر مما ينحاز إلى المصالح الحقيقية.

أما المظهر الأقسى والأكثر مرارة فهو تحول من بيدهم الأمر في بعض البلاد العربية إلى حال شبيهة بما كان عليها المستعمر الأجنبي، من حيث البون الشاسع بين من هم في سدة الحكم وبين شعوبهم، أو في النهب المنظم لقدرات وإمكانات هذه الشعوب لحساب زبانية يقام بينها تحالف غير مقدس، تتكون في الأغلب الأعم من كبار رجال الجهاز البيروقراطي، وأصحاب الحظوة من رجال الأعمال، وكبار العسكر ورجال الأمن الداخلي، ومثقفين وإعلاميين موالين للسلطة، منتفعين منها.

ويحلو لكثير من المثقفين أن يقارنوا، على سبيل المثال لا الحصر، بين وضع السياسي المصري أحمد حسين مؤسس «مصر الفتاة» في سجن الإنكليز، ووضع أخيه عادل حسين الأمين العام السابق لحزب العمل المصري المجمد في سجن ما بعد الاستقلال. فالأول كانت زنزانته عبارة عن غرفة فسيحة الأركان، بها سرير للنوم، ومذياع، ومكتب يجلس إليه ليدبج مقالاته وآراءه، وكانت تأتيه الصحف بانتظام، وهي حال أشبه بالحجز في مستشفى فاخر وليس في سجن سياسي. أما أخوه، الذي دخل السجن في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، فقد سلب الحراس منه دواءه ونظارته الطبية، ورموا به في زنزانة باردة ضيقة، لا يستطيع فيها أن يمد ساقيه، وأحيانا كانوا يسكبون ماء غير نظيف في الزنزانة، فيجبرونه على أن يقضي الليل واقفا على قدميه، وقت أن كان سنه قد تعدى الستين عاما بكثير.

وهذه المقارنة لا تعني أبدا الانتصار لزمن الاحتلال، فكل احتلال بغيض حتى لو أظهر أكبر قدر من المرونة والنعومة الزائفة التي لا ترمي إلا إلى إطالة عمر المستعمرين، لكن الموازنة بين هاتين الحالين تبين حجم الفجيعة التي أصابتنا من نخب ما بعد الاستقلال، التي تقدمت الصفوف بعد كفاح مرير للشعوب العربية ضد المحتلين، جرت فيها الدماء أنهارا، وعقد عليها الناس آمالا عريضة في أن تبني وتفتح أبواب الحرية ونوافذها عن آخرها، وتسمح للشعب، صاحب الحق الأصيل في جني ثمار الاستقلال، بأن يصنع القرارات التي تحقق مصالحه، وتتحكم في مصيره، إلا أنها خيبت الظنون، وجعلت بلادنا قابلة للاستعمار مرة أخرى، بهشاشتها الاجتماعية وضعفها الاقتصادي واستبدادها السياسي واستمرار عوامل انقسامها وصراعها الداخلي، التي يستغلها المحتلون في الوقت الراهن استغلال ظاهرا، برفعهم مبدأ «الفوضى الخلاقة»، التي تُبني في الأساس على توظيف كل الثغرات التي تثقب الجسد العربي، وتجعل منه كيانا سياسيا مريضا، قابلا للغزو والاحتلال.

* كاتب وباحث مصري