حين أصدر الناقد الانكليزي جوليان سبالنغ كتابه «خسوف الفن» عام 2003، متعرضاً بلغة صريحة للقطيعة، التي تكاد تكون تامة، بين النتاج الفني المعاصر وبين جمهور الفن، كانت المعارض لا تنقطع من جهة أخرى عن تقديم مواساة، بين حين وآخر، للجمهور المقموع، على هيئة معارض استعادية لفن المراحل الصحية السابقة.

Ad

في العالم العربي، تحتل ظاهرة الخسوف حقلاً آخر من حركة الفن لا يقل تأثيراً، فحركة الفن البصري، والرسم تحديداً، تبدو رائعة، فهناك دائماً طبقات في المستوى، تتحرك بسياق صحي، هناك دائماً فنانون كبار، وآخرون أقلّ شأناً، لكنهم ليسوا أقل فتنة، وإذا كنا نملك قطيعة بين حركة الفن هذه وبين الجمهور العام، فعلّتها كامنة في تدني حالة الوعي الفني لدى هذا الجمهور، ولهذه العلة أكثر من سبب ٍوعامل. ولكن ظاهرة الخسوف إنما تتضح في القطيعة التامة بين نقاد الفن، الذين يُفترض أنهم دليل إضاءة، وبين الجمهور. بين الكاتب والقارئ.

أحسب أن هذه الظاهرة هي وليدة عدوى انتقلت من حقل النقد الأدبي إلى حقل النقد الفني، فنحن أمة لغة، وتعبير عبدالله القصيمي بأننا (ظاهرة صوتية) ليس بعيدا تماما عن الصحة، ففي الوقت الذي يبدو فيه الفن، في كل حقوله البصرية وغير البصرية، أكثر انفتاحا على حركة الفن في العالم، يعبر الحدود فاتحا ذراعيه بطلاقة ونشوة، نرى حقل الأدب اللغوي مُحترسا ومُغلقا، وحين أتيح له أن يعبر الحدود، عبرها متنفجا، مكابرا، واهن الروح، لذلك سهلت العدوى بين لغة الأدب هذه وبين لغة النقد التشكيلي، فصرتَ تقرأ النقد التشكيلي فترى فيه، إذا استطعتَ الرؤية، ملامح النقد الأدبي واضحة: في الرطانة، والإغلاق، والنفاجة، والمكابرة.

كلاهما ممتَحنٌ بفراغ معرفي وروحي كبير، ويتمتع بصلافة حامل السلاح إزاء قارئه.

وكل منهما ينعم بفرص للتعمية والرطانة، بمقدار ما في هذا النص، أو تلك اللوحة من تطرف حداثي ينزع إلى التجريد الذهني، أو التجريد البصري، ولعل فرصة النقد التشكيلي من هذه التعمية والرطانة أوسع بالتأكيد، لأن علاقة اللوحة الحديثة بالجمهور مازالت محدودة، قياسا بعلاقة الإبداع اللغوي، ثم إن ثقافتنا عامة تخلو من موروث لهذا النقد التشكيلي الذي جاءنا من الغرب، قياسا بنقد الشعر أو النثر. يضاف إلى ذلك أن ناقد اللوحة التشكيلية مطمئن لعدم تعامل صاحبها مع مشاغل اللغة في الأدب والفن والفكر، فله متسع إذن في أن يرطن على هواه، وما على الفنان إلا أن يطرِب لما يقول الناقد، حتى لو لم يفهم مما يقول حرفا، لأن الهدف في النهاية هو احتلال حيز في وسيلة الإعلام، لا يختلف كثيرا عن حيز الإعلان، أما الجمهور حولهما فجاهل، ولا يشكل وسيلة لا للشهرة، ولا لتسويق اللوحة.

التعمية والرطانة في النقد التشكيلي تكادان تحتلان النسبة الكبرى مما يُكتب هذه الأيام، والصحافة الثقافية تبتلع ما يُكتب بارتياح، لأن ما يُكتب لا يكلف المحرر جهدا إضافيا في القراءة والتحرير، مادامت الصحافة الثقافية في جملتها مُساقة بسوط ما بعد التحديث، الذي يعتبر الدلالة والمعنى وفاعلية الفن في الوعي عناصر دخيلة على الفن، إن لم تكن جريمة بحقه!

هل يحتاج قارئ هذا الاحتجاج إلى شواهد؟... لا أعتقد، لأنه يتعثر بها كل يوم، مستنكرا كان أمامها، لا مباليا، أو راضيا. ولا بأس أن أختتم بشاهد عرضي لناقد تشكيلي معروف يقول: «تبلغ درجة التنزيه ذروتها الشطحية في مجال اختيار المقامات الصباغية، أي تزامن البارد والحار، وانتساب الألوان بعضها إلى بعض، وليس إلى دلالة الخطوط، تماما كما هي النواظم الموسيقية في الموشح والمقام والإنشاد، فالتواصل الكوني يجمع خفقات عالم السماعي ونبضات عالم البصيرة»!!