في غمرة شعور عارم من الترقب المشوب بالتوتر، أخرجت أمتعتي من الجمارك الأردنية. صباح ذلك اليوم من شهر مايو من عام 1998، حيث كنت أستعد لعبور حدود جغرافية و... نفسيّة! هي المرة الأولى التي أقترب فيها من حدود إسرائيل، وهويتي الفلسطينية تحتم خضوعي لاستجواب مفصل.

Ad

ركبت إحدى الحافلات القديمة التي تنقل الركاب بشكل منتظم بين الجانب الأردني من الحدود ونقطة التفتيش الإسرائيلية، بدأت مسيرة اجتيازنا للمنطقة العازلة، أي جسر الملك حسين، إنه ممرّ ضيّق يفصل الأردن عن الحدود الإسرائيلية. راح نظري يجول على الركاب من حولي، أغلبيتهم مثلي، فلسطينيون.

تناوب الجنود الإسرائيليون اليافعون على سؤالي عن الغاية من رحلتي، كانت الاستخبارات الإسرائيلية تشرف على سيل الأسئلة التي انهمرت عليّ بينما خضعت للتفتيش: من سأقابل؟ هل أحمل أيّة أسلحة؟ أين ولدت؟... ولدت في صور، على بعد بضعة أميال من الحدود الإسرائيلية مع جنوب لبنان...

طال الاستجواب، فتنبّهت إلى الواقع: أنا الواقف هنا، على أرض أجدادي، كنت أنا الغريب!

ساور الجنود الشك والريبة، فطلبوا مني الانتظار في قاعة الاستجواب، بينما انتقلوا إلى قاعة مجاورة للتشاور في ما بينهم. لا شيء في تصرفهم يشير إلى نجاح اتفاقات أوسلو.

ما إن وصلت إلى الجانب الإسرائيلي من الحدود، حتى راحت تراودني أسئلة كثيرة عمّا تحضنه تلك الهضاب الصخرية من أسرار تزخر بها هذه الأرض الجميلة، المسكونة بالتوتر. توجّهت إلى مدينة القدس، فصارت تتراءى أمام عينيّ ملامح القصص التي طالما كرّرها والداي وجدّاي على مسامعي، وقد حملوها معهم من أرض الوطن البعيد القريب. شيئاً فشيئاً، فارقني ذاك الشعور بالغربة عندما بدأت تطالعني، عبر النافذة، مناظر لم أعهدها سوى مجرد صور في خيالي.

انتابني شعور غامر: لم أكن أصدِّق أنني وصلت! أخيراً، وصلت إلى القدس!

قرّرت النزول في فندق «أميركان كولوني» لوجوده في القدس الشرقية، أي في الجانب الفلسطيني من المدينة، وكان زملائي قد نصحوني باختيار هذا المكان الحائز رضا قاصديه من المراسلين الأجانب، تجنباً لإحساس محتمل بعدم الانتماء في المدينة المقدسة. انطلقت فوراً في جولة في القدس مع محمد سلهب، وهو صديق كان يسكن حيّا مجاورا لي في غرب لندن، وكان يقيم داخل أسوار المدينة القديمة ويملك متجراً لبيع التحف، على مقربة من المسجد الأقصى، هذا المسجد الذي أدرجته على رأس القائمة التي أعددتها بالأماكن الواجب عليّ زيارتها، يعتبر ثالث الأماكن المقدّسة بالنسبة إلى المسلمين في جميع أرجاء العالم. تنزوي قبته المتواضعة ذات اللونين الفضي والأسود وراء القبّة الذهبية التي يزدان بها مسجد «عمر»، المهيمن على المشهد، في مدينة القدس القديمة.

خرجنا نستكشف الأزقة الضيقة وما تحويه من متاجر صغيرة مكتظة بالبهارات والتحف النحاسية والفضية والخشبية القديمة. كان الفلسطينيون الرافلون بجلابياتهم التقليدية وبكوفيّاتهم المنمّقة بمربعات بيضاء وسوداء كما في لعبة شطرنج، يتحدثون إلى السيّاح المزودين بكتيّبات ودلائل، واليهود الأرثوذكس الذين يعتمرون قبعات سوداء مميزة ويلتحفون المعاطف الطويلة، تملّكني مجدداً شعور دفين بأنني رأيت كل ذلك من قبل: إن تلك المشاهد ذكرتني بكل ما طال وصفه لي من قبل أصدقاء، لسنوات بعيدة خلت، أثناء طفولتي في لبنان.

كان يوم جمعة، يوم العطلة لدى المسلمين. تحدّى الآلاف من الفلسطينيين، شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً، الإجراءات الإسرائيلية التي تمنعهم الصلاة في المسجد الأقصى، خلال تجوالنا في الأزقة المزدحمة بالناس، أثار محمد دهشتي وفضولي بجمعه كل صحيفة نظيفة أو قطعة من الكرتون يجدها على الأرض، عند اقترابنا من البوابة المؤدية إلى ساحة المسجد، هالني حجم الوجود الإسرائيلي: كان الجنود ورجال الشرطة يتحققون من هوية كل شخص يدخل إلى المكان. في هذه اللحظة، أدركت سبب جمع محمد تلك الأوراق، فقد فرشها على أرض الساحة بديلاً عن سجادة الصلاة. كان الآلاف مثلنا سيصلـّون في الخارج لأن كل شبر من قاعة الصلاة في المسجد كساه المصلون. أعادتني أفكاري إلى والديّ اللذين طالما حلما بالصلاة في هذا المكان بالذات، حيث كنت جالساً. كان توقهما لأداء صلاة كهذه شديداًً للغاية، مما جعلهما يعلقان على جدار منزلنا في مخيم برج الشمالي في لبنان، مجسماً ثلاثي الأبعاد لمبنى المسجد الأقصى وقبته الرمز.

استغرقت زيارتي الأولى إلى الأرض المقدسة شهراً واحداً، لم تكن مجرد زيارة شخصية، لأنني عهدت تغطية فصول القضية الفلسطينية ومآثر قادتها حول العالم منذ عقود. بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو عام 1993، عاد هؤلاء القادة إلى بلادهم، وكانوا يحاولون بناء دولتهم. طوال سنوات، بعد عودته من المنفى في تونس، دأب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على تشجيعي لزيارته في مقرّه في رام الله وغزّة. كذلك فعل كلٌّ من الزعيم الروحي لـ«حماس» ، الشيخ احمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، أحد قادة «حماس» النافذين.

ما حقيقة «حماس»؟

لقد بات هذا السؤال الأكثر إلحاحاً في منطقة الشرق الاوسط منذ الانتصار المذهل، الذي حققته حركة حماس في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2006. كيف تعمل فعلياً أجهزتها؟ إلى أي مدى هي حقاً «إسلامية» الطابع والهوية؟ من هي تلك الشخصيات المتخفية وراء البذات المرقطة؟

مستنداً الى معلومات فريدة من نوعها استقاها من مصادره الخاصة، يعرض الصحافي الفلسطيني الاصل زكي شهاب، في هذا الكتاب الجريء للغاية، لظروف نمو «حماس» وتطورها بدعم اسرائيلي ضمني (فقد ابتاعت حركة حماس اول مخبأ لاسلحتها من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، الـ«شين بيت»)، بما أن الاسرائيليين كانوا يسعون الى إضعاف حركة فتح.

ويرفع شهاب النقاب عن مدى اختراق أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية لصفوف الحركة، وحتى على أعلى مستويات قيادتها. كما أنه، ومن خلال إجرائه مقابلات مع شخصيات مهمة رئيسية، يلقي الضوء على طبيعة حركة حماس من الداخل، ويكشف للمرة الاولى، كيفية انتقاء «الشهداء» وتحضيرهم لتنفيذ عملياتهم. يخوض شهاب ايضاً في حيثيات علاقة الحركة مع تنظيمات أخرى مثل حزب الله والقاعدة، كاشفاً بذلك ارتباطات مثيرة للدهشة.

يسلك شهاب مسارات الانفاق في غزة، ويحتسي الشاي مع أفراد عائلات القادة العسكريين، ويعيد إحياء علاقات قديمة مع أشخاص عرفهم في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فيجمع فصول حقيقة لم يسبق لأحد أن عرف تفاصيلها: «حماس» من الداخل.

قالوا عن المؤلف

زكي شهاب هو أحد أهم الصحافيين العرب. واكب أحداث منطقة الشرق الاوسط طوال 25 عاماً، وأمّن تغطيتها لجانب وسائل اعلام محلية وغربية مثل «الغارديان» و«سي.إن.إن» و«قناة الاخبار الرابعة»، و«بي. بي. سي.» و«نيو ستايت مان»، و«واشنطن بوست». يحتل موقع المحرر السياسي في صحيفة «الحياة» في لندن، وفي الفضائية العربية «إل. بي. سي.». من مؤلفاته «داخل المقاومة في العراق». «يستخدم زكي شهاب مصادر معلومات استثنائية ليضع تقويماً هو الاكثر شمولا حتى الآن، عن حركة لا يمكن تجاهلها في حال السعي الى إقامة سلام شامل ودائم في منطقة الشرق الاوسط. إن كتابه سهل القراءة للغاية، ونظراً لما يمثله من مضمون مهم وبحث معمّق، فهو يفسح المجال واسعاً أمام فهم واحد من أعمق الجراح في العالم، والذي لم يلق علاجاً ناجعاً حتى اليوم».

(جون سنو، بي. بي. سي)

«إن فهم طبيعة «حماس» أمر أساسي لفهم قضية الشرق الاوسط. زكي شهاب هو أحد أفضل معلقينا وأكثرهم اطلاعاً على القضايا العربية. إن هذا الكتاب ضروري للقارئ المتخصص كما للقارئ العادي. إننا نشدّد على ضرورة قراءته».

(جون سيمبسون محرر الشؤون الدولية، بي. بي. سي)

«كتاب زاخر بالاضاءات والتفاصيل. يرشد القارئ الى التقلبات التي جعلت حركة حماس تخرج من رحم المجتمع الفلسطيني لتحتل موقعاً محورياً على الساحة السياسية في منطقة الشرق الاوسط. يتمتع شهاب بقدرة مميزة لكشف النقاب عن هذه القصة بكل ابعادها واعماقها. وهو يحذر: لا يمكن الغاء حركة حماس ما لم يتم وضع حدّ نهائي للاحتلال. وما لم يتحقق هذا الامر، فسيبقى مهيمناً شبح حركات أخرى اكثر تطرفاً وعنفاً.»

(د. روز ماري هوليس مديرة الابحاث في المعهد الملكي للشؤون الدولية)

«شهاب، الصحافي الفلسطيني المرموق للغاية، الذي ولد في مخيم للاجئين، يتمتع بكل المقومات التي تخوّله كتابة هذه الرواية. فهو ينجح، من خلال مقابلات صحافية أجراها مع قادة «حماس» ومصادر فلسطينية أخرى، برسم صورة دقيقة وحيّة لحركة حماس واستشهادييها، ولعلاقة ايران بحرب «حماس» السرية ضد حركة فتح. من خلال قراءة هذا الكتاب، يتبيّن للقارئ أن شهاب تمكن من الاطلاع على بعضٍ من أدق الملفات العائدة لمنظمة التحرير الفلسطينية».

(ديفيد إيغناتيوس كاتب عمود في «واشنطن بوست»)

الفصل الأول: النصر المنسّق

المكان: على بعد مبان ٍ عدّة من البيت الابيض، في مبنى هاري س. ترومان التابع لوزارة الخارجية.

الزمان: يوم سبت، خارج ساعات دوام العمل العادية.

عقدت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وفريق عملها اجتماعاً استثنائياً. على جدول الاعمال، الانتصار الساحق لـ«حماس» في الانتخابات الوطنية الفلسطينية، كيف يعقل أنّ أحداً لم يتوقع حصول ذلك؟ سألت رايس، ثم استرسلت في الإجابة على سؤالها: هذا يعني أننا لم نكن مطلعين بشكل وافٍ على مسار الأمور، بادر أحد مساعديها إلى القول إن هذه النتيجة هي انعكاس مباشر لعمق الانقسامات القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على الرغم من الدعم والتشجيع الذي يلقاه الطرفان من المجتمع الدولي لوضع حدٍّ لخصومتهما المريرة والمديدة. حركة فتح المستأثرة بالسلطة والخاضعة لسيطرة ياسر عرفات منذ الستينيات، كانت قد بدأت مفاوضات سلام مع إسرائيل منذ أكثر من عقد، لكن الفلسطينيين تخلوا عنها، وأدلوا بأصواتهم لمصلحة حركة حماس، التي تجيز استخدام العنف وترفض الاعتراف باسرائيل. كان التصويت تعبيراً واضحاً، بل صارخاً، عن رأي الفلسطينيين في قادتهم السياسيين التقليديين. أضافت رايس: لا أعرف أحداً لم يؤخذ على حين غرّة من أداء «حماس» القوي.

في اليوم التالي، انتقلت رايس إلى لندن للمشاركة في مؤتمر عقد على مدى يومين، حضرته وفود من سبعين دولة، لمناقشة الوضع في أفغانستان والنزاع في الشرق الأوسط والتوتر المتفاقم مع إيران، وفي ما يمثل دليلا ً إضافياً على فشل أميركا في البقاء على اطلاع تام على واقع الأمور، نُقِل عن رايس تعليقها «يقول البعض إن «حماس» نفسها فوجئت من أدائها الجيّد جدّاً»،

لكن الحقيقة هي أن «حماس» لم تُفاجأ؛ لقد ذهل كثيرون من المعلقين الفلسطينيين مما أظهرته رايس وغيرها من المسؤولين الأميركيين، من جهل لعمق العداء الذي يكنّه الفلسطينيون لقيادتهم ولإسرائيل؛ فالفضل في نجاح «حماس» يمكن أن يُنسب، في جزء منه، إلى استراتيجية الخداع المنسّقة بمهارة التي اعتمدتها «حماس».

«حماس» خطّطت للانتصار

اليوم الذي جرت فيه الانتخابات الفلسطينية في 25 يناير عام 2006، شهد مشاركة 1073000 فلسطيني في الاقتراع، التقيت خلاله الدكتور محمود الزهار، أحد قادة «حماس» المرموقين. هو طبيب عُيّن لاحقاً وزيراً للخارجية في أول حكومة تشكلها حركة حماس بقيادة اسماعيل هنـّية. خلال احتسائنا الشاي في منزله وسط مدينة غزّة، ابتسم لي «أبو خالد»، كما يُلقّب، وأخبرني بأن «حماس» قد استعدّت بشكل جيّد لهذه الصدمة المزعومة.

خلال الأشهر الستة التي سبقت موعد الانتخابات، عمِل الموالون للحركة مع قاعدتهم الناشطة، على إبقاء الجميع، بمن فيهم مؤيّدو «فتح» و«حماس»، على غير علم بالفوز المخطط له. وكشف لي الزهار كيف تلقى الناخبون من عناصر الحركة وأنصارها تعليمات بأن يتفادوا الإجابة، إذا استطاعوا، في حال سُئلوا عن مرشحهم المفضل، ولكن إذا أحرجوا بسؤال حثيث وملحّ، فليعطوا جواباً مضللا ً. هذا الأداء أوقع مستطلعي الرأي، قبل أشهر من الانتخابات، في فخ التكهن بأن «فتح» ستتولى مرّة جديدة تشكيل الحكومة المقبلة.

حرج اسرائيلي

ومثلما فوجئت رايس ونشطاء «فتح»، سبق لرئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، الجنرال دان حالوتس، ان أسرّ عشية الانتخابات، إلى لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، بأنه يتوقع فوز حركة فتح، لكن بأغلبية ضئيلة. كان توقعه مرتكزاً على «حكماء الاستخبارات الإسرائيلية»، في إشارة إلى وحدة الاستخبارات العسكرية الخاصة، «أمان» التي، من بين مهامها، بالإضافة إلى قضايا أساسية أخرى، إصدار تقديرات وتوقعات استخباراتية لحساب رئيس الوزراء وحكومته.

شكّل هذا الفشل في توقع نتيجة الانتخابات إحراجاً هائلاً لوكالات الاستخبارات جميع، وورد في افتتاحية صحيفة «يديعوت احرونوت» السؤال التالي: إن كانوا لا يعرفون ماذا يحصل في الأراضي الفلسطينية، كيف سنعتمد عليهم لمعرفة ماذا يجري في إيران؟

في سياق سعيها إلى إيجاد كبش محرقة، ألبست الاستخبارات التهمة للدكتور خليل الشقاقي، وهو عالم اجتماع واختصاصي في استطلاعات الرأي، زاعمة أنه ضلـّلها بشكل فاضح.

بعد يوم أمضيته في إجراء مقابلات صحافية مع المرشحين والناخبين المتوجهين إلى مراكز الاقتراع، عدت إلى الفندق عبر الطرقات المهجورة التي أضاءها لهيب الإطارات المحترقة. في البعيد، علت أصوات أبواق السيارات يطلقها المؤيدون لحركتي فتح وحماس وممن ينتمون إلى جناحيهما العسكريين. كان الجميع قد استبق إعلان النتائج وباشر الاحتفال بفوز اعتبره محتماً.

قبل تسعة أشهر، وإثر جولة من المحادثات استمرت ثلاثة أيام في القاهرة، حضرتها وفود من ثلاثة عشر فصيلا ً فلسطينياً، أعلن ممثلو «حماس» نيّتهم المشاركة في العملية الانتخابية المقبلة، بعدما كانوا قد قاطعوا انتخابات عام 1996 احتجاجاً على اتفاقية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الحكومة الاسرائيلية. فسّرت المجموعات الاساسية المسيطرة، كـ«فتح» مثلاً، هذا التغيير في موقف «حماس» على أنه إقرار بالامر الواقع الذي تمثله اتفاقيات أوسلو، وتراجع عن رفضها حق إسرائيل في الوجود.

استراتيجية الانتصار

بعد عودتهم إلى القاهرة من غزّة، تولى قادة «حماس» تعيين فريق لادارة الحملة الانتخابية، مؤلف من خبراء في مجالات الاتصالات وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. كلـِّف أعضاء هذا الفريق الإمساك بزمام الأمور في كل المجالات الحيوية داخل المجتمع الفلسطيني، واتخذوا من الجامعة الاسلامية في غزّة حجر الزاوية لاستراتيجيتهم الانتخابية. تمثلت أولى مهامهم في تقسيم الناخبين إلى ثلاث فئات: المؤيدين والمترددين والمنافسين، حظي المترددون بأقصى درجة من الانتباه لأن واضعي الاستراتيجية التابعين لحماس اعتبروا أن أغلبية الناخبين تقع في هذه الخانة. لم تكن خطتهم تقضي باقناعهم القبول بسياسات «حماس» بل إبراز مساوئ سياسة منافسيهم. من خلال استغلال تاريخ «فتح» في سوء الادارة والحكم والفساد والفشل في تحقيق أيّ تقدّم فعلي في المفاوضات مع إسرائيل، استطاعوا إقناع العدد الكافي من المترددين بالتصويت لمصلحة مرشح «حماس».

وفي سعيها إلى اختيار شعار للائحتها الانتخابية، حرصت «حماس» على تجنب ما قد يشير إلى جدول أعمالها العسكري، فاكتفت بشعار متفائل وجامع «من أجل التغيير والإصلاح». هكذا صوّرت «حماس» نفسها على أنها الصوت المعبِّر عن القلق الاجتماعي، وأعلنت أنها ستدخل تغييرات جذرية على حياة الناس. وفي سياق عملها على استمالة أصوات الفلسطينيين، امتنعت الحركة أيضاً عن إبداء أية إشارة إلى طموحاتها بتدمير إسرائيل، كما امتنعت عن التلميح إلى أيِّ تقارب مدروس معها. وأعلن المرشح الثاني للمجموعة، الشيخ محمد أبو طير، في مقابلة أجريت معه خارج المسجد الأقصى في القدس «لن نستبعد إمكان أيّ مفاوضات مع الدولة العبرية». وأضاف قائلاً «تستطيع إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية العيش معاً جنباً إلى جنب، على الأقل لمدة جيل أو جيلين». ذكّرني هذا الكلام بما أخبرني إياه، قبل عشر سنوات، الشيخ احمد ياسين، بحضور اسماعيل هنـّية، عن استعداد حركته للتفاوض على هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. لكن الزعيم الروحي لـ«حماس» كان يشعر باستحالة المحافظة على هدنة كهذه، ففضّل ترك معالجة هذه المعضلة للأجيال المقبلة، بعد زوال مجموعة المقاتلين والسياسيين القدامى، وحلول دم جديد مكانهم. وأردف قائلاً، مع ابتسامة ذات مغزى، إن حدسه ينبئه بأن الدولة العبرية لن تكون موجودة بعد ثلاثة عقود.

يوم الانتخابات، لم تفوّت «حماس» أي فرصة لاقناع الناخبين المترددين بوضع علامة قرب اسم مرشح «حماس». لقد قصد أعضاؤها ومناصروها المساجد والمعارف العائلية والجيران والمدارس وأماكن العمل، وعلى الجبهة الاعلامية كذلك.

أما حجم الأموال التي استثمرتها «حماس» لتحقيق الفوز، فلم يتم تحديده بعد، لكن منافسيها في حركة فتح قالوا إن الأرقام تتراوح بين 22 و30 مليون دولار أميركي، بينما اقتصر الرقم الرسمي الذي حصلت عليه من اللجنة الانتخابية على 3 ملايين.

شارك في التجمعات التي أقامتها حركة حماس في مدينة غزّة عشرات الآلاف من الأشخاص، كانت تعلمهم بعقد هذه النشاطات جداول توزّع مسبقاً في المساجد والمكتبات والمدارس والجامعات، إضافة إلى المعلومات التي تبث عبر الاذاعات المحلية والإنترنت التي تحولت بين أيدي «حماس» إلى أكثر وسائل الاتصال فعالية. لكن كل تلك التجمعات اتسمت بالسلمية والهدوء.

دحلان كان قلقا

يوم الانتخابات، انتشر رجال الشرطة لتنظيم السير ولضبط الحشود. وتم توزيع السندويتشات والمشروبات الباردة على كل العاملين في إطار حملة «حماس» الانتخابية لضمان فعالية أدائهم طوال ذاك اليوم. كانت عملية احتساب الاصوات لا تزال متواصلة في الساعات الاولى من صباح اليوم التالي عندما اتصلت بمكتب الدائرة الانتخابية لنجم «فتح» الصاعد محمد دحلان، مستفسراً عن النتائج. أبلغني أحد مساعديه بأنه يعقد اجتماعاً في دائرة خان يونس الانتخابية، واقترح عليّ الذهاب إلى هناك. حين وصلت إلى ثاني أكبر مدن غزّة، طالعتني قوافل السيارات والشاحنات والحافلات المتقاطرة من رفح القريبة كما من مختلف أطراف مدينة خان يونس، قاصدة مركز الاحتفال بنصر «فتح» في معقل الحركة. لابدّ أن الوافدين استندوا إلى التوقعات الأولية للنتائج التي نشرها مستطلعو الرأي بمن فيهم الشقاقي، واقتبستها عنهم محطات التلفزة كالجزيرة والعربية وغيرها من شبكات التلفزة الاجنبية. كان دحلان في لباس عادي، يتابع الاخبار ويجيب على الكمّ الهائل من اتصالات التهنئة الواردة إليه من كل أنحاء الاراضي الفلسطينية. حاول بكل هدوء أن يلجم حماسة محدثيه الزائدة، وطلب منهم التحلي بالصبر وبانتظار النتائج الرسمية. ثم قرّر القيام بجولة في السيارة عبر شوارع خان يونس لكي يستطلع بنفسه جوّ الناخبين، وطلب مني مرافقته. تعرّف المارّة إلى موكبه، فراح يردّ عليهم التحية بينما نحن متوجهون إلى مستشفى الأمل حيث أقام مكتباً لفريق حملته الانتخابية. دحلان هو السياسي الوحيد من بين من قابلتهم خلال تلك الانتخابات الذي رفض الاستناد إلى الاستفتاءات المستقلة. كان دائم التشكيك في دقة استفتاءات الرأي، مفضلاً الاعتماد على الابحاث التي يقوم بها أعضاء فريقه الانتخابي. كان هؤلاء منكبين، كلٌّ على حدة، على تحليل توجهات الناخبين. لقد وجد مساعدوه صورة مناقضة لتلك التي كانت تقدمها استطلاعات الرأي. كما بدأ يتلقى أنباء مقلقة تفيد بأن عدداً كبيراً من رجال الشرطة الفلسطينية وعناصر الاجهزة الامنية قد صوّت لمصلحة «حماس». وأفادت توقعات مستشاريه بأن نحو %40 من هؤلاء الموظفين الحكوميين التابعين للسلطة الفلسطينية قد صوّتوا لـ«حماس»، مما أدى إلى تغيير النتائج بشكل دراماتيكي لمصلحة منافسيه. أدرك دحلان أن حظوظ حركته في الفوز باتت تتضاءل، فبادر إلى دعوة المتصلين به إلى إفساح المجال أمام انتقال سلميّ للسلطة في حال فوز «حماس» في الانتخابات. وعلى الرغم من خسارة حركة فتح في الانتخابات، فقد استطاع دحلان، إضافة إلى مرشح آخر من «فتح» هو سفيان الآغا، أن يضمن فوزه بمقعد، إذ حصل على أكبر عدد من الاصوات في دائرته الانتخابية بلغ 38349 صوتاً، متقدماً بذلك على منافسه يونس الاسطل الذي نال 37695 صوتاً.

الانتقام من «فتح»

عوامل اخرى ساهمت في فشل «فتح»، في مقدّمها غياب عدد كبير من مرشحيها الذين لم يتمكنوا من إيجاد مكان لهم على لائحتها الانتخابية، فاضطروا إلى الترشح بشكل مستقل. بالتالي، خسرت «فتح» كمّاً بالغاً من الأصوات غنمها هؤلاء المستقلون، بينما شكلت الأرقام العالية التي حققتها «حماس» في مدن مثل غزّة ورام الله، وحتى في مدينة بيت لحم المسيحية بتاريخها وناسها، تصويتاً احتجاجياً ضد «فتح»، أكثر منه تصويتاً تضامنياً مع «حماس».

وكان لفوز «حماس» وقع كبير لاحقا على الحملات الانتخابية الاسرائيلية، بحيث قام سياسيو المعارضة بصبّ جام انتقاداتهم على الحكومة، لفشلها في منع وصول الحركة الاسلامية إلى موقع متقدم.