مفهوم هؤلاء للوسطية مفهوم إيديولوجي سياسي يخدم توجهاتهم الحزبية، فحتى تكون «وسطياً» صادقاً وأميناً عليك تعظيم مثالب الغرب وسيئات أميركا من دون ذكر الإيجابيات، وعليك تمجيد «حزب الله» و«حماس» والدعاء للمجاهدين من دون ذكر خطاياهم.في أعقاب المد الإرهابي الذي استشرى وطال المنطقة بعد اعتداءات «11/9» واجتاح مجتمعاتها وضرب بعنف ووحشية مدنها مخلفاً ضحايا من القتلى والجرحى ودماراً مروعاً وتهديداً للأمن والاستقرار وترويع الناس، قامت المنطقة باستنفار الجهود والموارد والطاقات كافة لمواجهة هذا الخطر الإرهابي الداهم.
لقد عاش الخليجيون في سلام مع الذات وتصالح مع الآخرين من مختلفي الجنسيات والأديان والمذاهب وتعاملوا مع شعوب الأرض جميعها من منطلق المصالح التجارية المشتركة، ومن دون عقد استعلاء أو كراهية ولم يكن في الحسبان أن يأتيهم الخطر من الداخل من أبنائهم الذين تعلموا وتربوا ونشأوا في المنطقة.
لقد كان المجتمع الخليجي في أمن وطمأنينة وسلام وتسامح لا يعلمون شيئاً عن التحريات السياسية والدينية حتى وفدت إلى الخليج أفكار (الحاكمية) على يد فقهاء الإسلام السياسي الذين قدموا إلى المنطقة فراراً من البطش الناصري، وثق الخليجيون فيهم وائتمنوهم على أعظم أمانة تربية وتعليم الأجيال القادمة، ومكنوهم من مراكز التأثير والتوجيه لكنهم زرعوا الأرض (ثقافة الكراهية) وكانت الثمار المرة لذلك الغرس، عقول مشحونة بنظريات التآمر والحقد الصليبي الصهيوني، ونفوس متوترة مع مجتمعاتها وحكوماتها، غريبة عن حضارة عصرها ومعادية لها، ملؤوا قلوب الشباب بأفكار تعصبية واقصائية تجاه المخالفين لهم من الفرق والجماعات والمذاهب الأخرى، غرروا بالشباب واستدرجوهم كما صرح أخيرا مفتي السعودية العام الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ فأصبحوا «أداة» في أيدي أجهزة خارجية تعبث بهم باسم «الجهاد» في عمليات قذرة، هي أبعد ما تكون عن الدين حتى باتوا سلعة تباع وتشترى في سوق الصراعات الإقليمية على أيدي مقاولي الجهاد الذين يُصّدرون هؤلاء الشباب المتحمس إلى مناطق التوتر وفقا للسعر المدفوع، وقد كشفت حادثة مقتل أبي القعقاع عن جلب حقائق وخفايا هذا الدور القذر، الذي كان يمارس عبر الخطب الجهادية وفي مساجد معروفة وتحت سمع وبصر السلطات الرسمية، حيث يتم تجنيد الشباب العرب والخليجيين لينتهوا مقتولين أو مأسورين في العراق ولبنان، لقد كانت المواجهات الأمنية ناجحة وفعالة ووقف الخليج أخطار وشرور الإرهاب وتداعياته السلبية على الاستثمارات والسياحة وخطط التنمية، ولكن ماذا عن المستقبل؟ وكيف يتم تقوية المناعة المجتمعية ضد أخطار التطرف؟ وكيف نحصن الشباب تجاه فيروسات الإرهاب الكامنة في التربة المجتمعية؟ ومن هم المؤهلون للقيام بهذه العملية؟
في سياق المعركة ضد التطرف والإرهاب، سرعان ما استعاد فقهاء ومشايخ (الإسلام السياسي) أو (الصحوة) مواقعهم، بعد أن تزلزلت عقب كارثة الحادي عشر من سبتمبر والتي وُجهت فيها أصابع الاتهام إلى بعض مشايخ (الصحوة) باعتبارهم المحرضين للشباب على العمل العدواني والمبررين لجرائمهم عبر الفتاوى الدينية والخطب الجهادية، لقد نجح هؤلاء في الترويج لأنفسهم كفقهاء للوسطية والاعتدال والتسامح ونجحوا في إقناع السلطات الحاكمة بأنهم الأقدر على مواجهة الفكر المتطرف ومنازلة المتطرفين بالأدلة والحجج الشرعية الصحيحة، وهم المؤهلون لاحتواء هؤلاء المغرر بهم ومناصحتهم وتصحيح تصوراتهم وترشيد سلوكهم وتعديل مواقفهم، لكونهم الفاقهين لأحكام الدين والممثلين للوسطية والاعتدال، كما نجح هؤلاء عبر المتعاطفين معهم في إقناع الغرب والإدارة الأميركية بأنهم حائط (الدفاع الأول) في مواجهة المتطرفين لأنهم يمثلون الإسلاميين المعتدلين ولذلك بدأت الإدارة الأميركية بتشجيع دول المنطقة لتعزيز دمج الإسلاميين في الحياة السياسية وتمكينهم في العملية الديموقراطية، وبدأ ما سمي في حينه بلقاءات (الغزل) الأميركي الإسلامي، وكان العراب الأكبر لها د. سعدالدين إبراهيم وقد أثمر ذلك وصول «حماس» لأول مرة إلى السلطة، وحصول الأخوان على عدد كبير من المقاعد النيابية بمصر لقد استطاع رموز ومشايخ (الإسلام السياسي) وفقهاء (الصحوة) وبفضل الدعم والتمكين من استعادة مكانتهم ونفوذهم واخترقوا المؤسسات المالية الإسلامية كافة، وجعلوها «حكراً» عليهم وعلى المتعاطفين معهم وشكلوا «كارتيلا» اقتصادياً ضخماً ومهيمناً وأصبحوا عبر فتاواهم يتحكمون في عمل المؤسسات المالية الأخرى ومن آخر مبتكراتهم ماسمي بعملية (التطهير) التي ينبغي إجراؤها بالنسبة الى إيرادات وأسهم المصارف والشركات التجارية التقليدية كافة بحجة تطهير معاملاتها (المحرمة)!.
ـ إذا كانت المعاملة محرمة فكيف يمكن تطهيرها والله لا يقبل إلا طيباً؟ وما الفريق بينها وبين غسل الأموال؟! لقد ازداد انتشار فقهاء (الصحوة) ومشايخ (الاعتدال) عبر الفضائيات في هذا الشهر الفضيل وأصبحوا نجوماً ينافسون نجوم الفن والتمثيل والغناء تجدهم في القنوات كلها يطلون عليك بوجه طلق وابتسامة بيضاء وحديث حلو وجذاب عن الوسطية والتسامح والمحبة واحترام الاختلاف، وقد كان بعضهم من قبل يحرمون الظهور في الفضائيات لأنها «فتنة» الآن يعشقون «الوسطية» وقد كان بعضهم يكبر صمود الشعب العراقي والتفافه حول قيادته البعثية ويحث على الجهاد تحت راية صدام!
وبعضهم نظم قصيدة في «منقاش» صائد الأباتشي! وكلهم برروا لـ «القاعدة» عدوانها على أميركا! يا سبحان الله أصبحوا اليوم جميعاً دعاة للوسطية! وهناك الشيخ العراقي الذي بشر بانتصار صدام وأنه سيعيد الخلافة الراشدة، أصبح اليوم داعية للوسطية والاعتدال؟ هل هذه المواقف الجديدة تمثل تراجعاً فكرياً وسياسياً أم هو نوع من ركوب الموجة الوسطية الرائجة وعمل براجماتي نفعي؟ إذن لماذا لا يعترفون بأخطائهم؟!
رهان مجتمعاتنا وأنظمتنا الآن على ثقافة «الوسطية» كعامل تحصين يقي شبابنا أمراض التطرف، والتساؤلات المطروحة هل ينجح هذا الرهان؟ وهل الذين يتسيدون الفضائيات والمنابر معبرين حقيقيين عن «الوسطية»؟ وهل الخطاب السائد يمثل الوسطية الإسلامية ويتوافق مع ممارسات هؤلاء الدعاة؟ وما هي ضماناتهم في تحصيل الشباب ونزع بذور الغلو والكراهية من نفوسهم؟ أخشى أن يكون الرهان، خاسراً، فالبوادر والمؤشرات غير مشجعة وذلك بجملة أسباب:
1ـ ان تاريخهم الفكري متقلب ومواقفهم السياسية متلونة، فهم يجيدون ركوب الموجة السائدة، ماهرون في مخاطبة الجماهير واللعب بعواطفهم من دون تنمية وعيها وتبصيرها بحقائق الأمور.
2ـ ما زال معظم شيوخ ودعاة الوسطية يبررون الإرهاب بغير عوامله الحقيقية، يربطونه بالظلم الأميركي تارة، أو بالقهر السياسي للأنظمة العربية أو بظهور المنكرات وشيوع المعاصي، وإما بربطه بالغلو العلماني الذي استغرب المتحمسين تارة أخرى وكما يقول هاني نسيرة الباحث في مركز «المسبار» للدراسات والبحوث إن تلك التفسيرات تتجاهل البنية الأيديولوجية والفكر ية الخاصة بالجماعات الإرهابية.
3 - إنهم، وإن أدانوا العنف فإنهم يدينونه في نتائجه المجسدة في العمل الإجرامي، لكنهم يتجاهلون المقدمات المؤدية إلى تلك النتائج وفقا لسماحة الشيخ حسن الصفار فيتجاهلون التعليم الإقصائي والخطاب الديني التحريضي والثقافة التعصبية المنتجة لتلك الشخصية العدوانية.
4ـ إن مفهوم هؤلاء للوسطية مفهوم إيديولوجي سياسي يخدم توجهاتهم الحزبية، فحتى تكون «وسطياً» صادقاً وأميناً عليك تعظيم مثالب الغرب وسيئات أميركا من دون ذكر الإيجابيات وعليك تمجيد «حزب الله» و«حماس» والدعاء للمجاهدين من دون ذكر خطاياهم وإذا أَدنْت الإرهاب والقاعدة فعليك إدانة أميركا ومظالمها وعدوانها، وإذا انتقدت التكفيريين التمست لهم عذراً بأنهم فتية آمنوا بربهم أخطؤوا الطريق بسبب المد التغريبي الصليبي، وإذا حصل عمل إرهابي قلت هذا من فعل «الموساد» أو «المخابرات الأميركية»، كما عليك أن تشارك في المهرجانات المناهضة لأميركا.
5 ـ وأخيرا لا أمل في خطاب الوسطية السائد لعدم مصداقية دعاته، بالأمس قادوا مسيرات مقاطعة البضائع الأميركية واستأسدوا على دجاج «كنتاكي» ولم يحركوا ساكناً ضد الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان في نظم عربية قمعية... ينتقدون المظالم الأميركية ويتجاهلون ظلم ذوي القربى.
* كاتب قطري