ما قل ودل: تأبين مغنية وتداعياته الدستورية والقانونية
إن حادث التأبين العارض لا يجوز أن يجرنا إلى الخروج بالعقوبة عن وظيفتها التي شرعت لها، وهي حماية المصالح الأساسية في المجتمع من الأفعال التي تضر به أو تعرض أمنه للخطر وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، باعتبار أن الاعتداء على هذه الحقوق اعتداء على الهيئة الاجتماعية التي تلتزم أصلاً بكفالتها وضمان تمتع الأفراد بها.
تتزاحم كل أسبوع أمام عيني وفي رأسي الموضوعات، كل منها يطالب بأن تكون له الأولوية فيما سوف أكتب في هذه الزاوية، إلا أن موضوعات هذا الأسبوع، كانت الأكثر إلحاحاً، لما تثيره من تداعيات دستورية وقانونية مهمة، ومنها ما حدث في جلسة مجلس الأمة المعقودة في 4 مارس وما صاحبها من خطأ اعتذر عنه رئيس مجلس الأمة في اليوم التالي، وانسحاب الحكومة من الجلسة، وقضية تأبين عماد مغنية وتداعياتها، وتعديلي ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي لحسم الخلاف حول هوية هذه المنظمة، وهل هي منظمة دول أم منظمة شعوب أم منظمة جاليات، وتشكيل لجنة لدراسة العفو عن عبدالسلام العوضي رئيس مجلس إدارة الشركة الأهلية للاستثمار بعد صدور حكم ضده بالسجن، وصدور حكم قضائي بإلزام وزارة الصحة بالكويت تعويض أمّ أصيبت مولودتها بشلل في يدها من خطأ طبي، وامتناع البابا شنوده رأس الكنيسة المصرية عن تنفيذ حكم قضائي بإقرار حق الزواج مرة ثانية لمسيحي حصل على الطلاق من محكمة مدنية، وما قد يتعرض له البابا من مساءلة جزائية في جريمة الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي.وبعد حيرة وتردد، قفز إلى مقدمة هذه الموضوعات، تأبين مغنية وتداعياته الدستورية والقانونية، بعد أن قرأت مقالاً للكاتب الكبير محمد مساعد الصالح في عموده اليومي «الله بالخير» بصحيفة «القبس» تحت عنوان «أخطاء مسلكية أم جرائم»، ارتفع فيه -كعادته- فوق تأجيج العواطف والانفعالات، عند ما علق على ما جرى في أعقاب حفل تأبين عماد مغنية من أوامر بالضبط والإحضار والحبس الاحتياطي، ومن الربط بين المشاركة في هذا الحفل وبين حزب الله في لبنان، الذي كان المتوفى ينتمي إليه، الأمر الذي أدى إلى مزيد من خلط الأوراق واتهام بعضهم بالمشاركة في تنظيم سياسي، هو فرع لهذا الحزب، ليقرر الكاتب الكبير أن القضية وما تفرع عنها من ادعاءات، لا تعدو أن تكون أخطاء مسلكية وليست أفعالاً يعاقب عليها القانون، وأن ما هو منسوب إليهم لا يخرج عن فكر لم يوضع موضع التنفيذ.ومن دون الخوض في التداعيات المختلفة لحفل التأبين، التي هي في أيدي النيابة العامة الأمينة على الدعوى العمومية، فإني أتفق تماماً مع الكاتب الكبير في أن حفل التأبين ذاته يقع في دائرة الأخطاء المسلكية التي تخرج عن دائرة الأفعال المؤثمة جزائياً، ذلك أن هذا الحفل وإن مس الشعور العام للمواطنين، إلا أن قانون الجزاء لا يجرم هذا الفعل ويعاقب عليه، ولا أكتم خشيتي من أن يؤدي التهويل في هذا الأمر، إلى المطالبة بتدخل المشرع لسن تشريع يعاقب على كل قول أو فعل يمس الشعور العام للمواطنين، أو يعكر الصفو العام، فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، لما يمثله مثل هذا القانون لو صدر من عدوان على الحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، باعتبارها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية الغائرة في أعماقها، وإن القوانين الجزائية بما تفرضه على الحرية من قيود رهناً بأن تكون الأفعال التي تعاقب عليها محددة بصورة يقينية لا لبس فيها أو غموض وليس بعبارات فضفاضة، تتعدد تأويلاتها بما يسمح باتساعها وانفلاتها، وأن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون اختلاف الآراء حول مقاصدها أو تقرير المسؤولية الجزائية في غير مجالاتها، فتصبح شباكاً أو شراكاً تتصيد باتساعها وخفائها وغموضها من الأفراد من لم يكونوا على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها، بما يجعل الجهل بها عذراً يناقض القرينة القانونية الأصلية في العلم بالقوانين، وهي أن نشرها بالطريق القانوني يفترض العلم بها. إن هذا الحادث العارض، حفل التأبين بكل ما أثاره من مشاعر غاضبة، لا يجوز أن يجر الكويت إلى ما يناقض تجربتها الديموقراطية المتميزة والفريدة بين دول العالم العربي، في مشرقه ومغربه، والتي أهم ما يميزها الحرية الكبيرة المتاحة للمواطنين، والتي صانها الدستور وألزم الدولة بكفالتها، فالحرية الشخصية مكفولة طبقاً للمادة (30) من الدستور، ولا يجوز طبقاً للمادة (31) القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تحديد إقامته أو تقييد حريته في الإقامة أو التنقل إلا وفق أحكام القانون، وحرية الاعتقاد مطلقة طبقاً للمادة (35) وحرية الرأي والصحافة والنشر مكفولة طبقاً للمادتين (36 و37)، وللأفراد حق الاجتماع طبقاً للمادة (44)، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها في المادة (32).إن هذا الحادث العارض لا يجوز أن يجرنا إلى الخروج بالعقوبة عن وظيفتها التي شرعت لها وهي حماية المصالح الأساسية في المجتمع من الأفعال التي تضر به أو تعرض أمنه للخطر وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، باعتبار أن الاعتداء على هذه الحقوق اعتداء على الهيئة الاجتماعية التي تلتزم أصلاً بكفالتها وضمان تمتع الأفراد بها، لتصبح العقوبة أداة طيعة وقامعة للحرية عاصفة بها ومخالفة للقيم الإنسانية الرفيعة التي حفل بها الدستور والتي جعلها سياجاً لحماية هذه الحقوق والحريات.إن هذه المساحة الواسعة لحرية الرأي والرأي الآخر في الكويت، هي التي أملت عليّ التصدي لحملة مماثلة شنتها الصحافة المصرية على النائب عدنان عبدالصمد، عندما وجه في جلسة مجلس الأمة المعقودة بتاريخ 3/1/1995، تحيته إلى الشعب المصري الذي أنجب سليمان خاطر وخالد الإسلامبولي، اللذين اغتالا الرئيس الراحل أنور السادت، وأدينا في هذه الجريمة.لقد وجهت رسالة مفتوحة إلى الصحافة المصرية في مقال نشر لي في صحيفة «القبس» في عددها الصادر في 21/1/1995 تحت عنوان «من مواطن مصري إلى ابراهيم سعده»، وكان وقتئذ رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم الذي قاد حملة الصحافة المصرية ضد النائب عدنان عبدالصمد، استعرضت فيها الحرية التي تتمتع بها الكويت، وأن الرأي الآخر في الكويت له حرمته ولا تملك الحكومة إزاءه أي سلطة، ويجب أن يتسع صدرها لسماعه، خاصة إذا صدر من نائب في البرلمان.لقد اختلفت في الرأي مع الصحف المصرية وقتئذ، لا دفاعاً عن عدنان عبدالصمد، بل دفاعاً عن حرية الرأي وحرية التعبير، دفاعاً عن مبادئ وقيم، لا يجوز التضحية بها من أجل أمر عارض، وحرصاً على أن يعرف الرأي العام المصري كل الحقائق ليكون حكمه عادلاً في هذه القضية، وحتى لا يثار بسببها أزمة بين البلدين الشقيقين.استعدت في ذاكرتي تأبين النائب عدنان عبدالصمد لخالد الاسلامبولي وسليمان خاطر ومقالي سالفي الذكر، وأنا أكتب في تداعيات تأبينه لعماد مغنية التي أصبحت تهدد الوحدة الوطنية في الكويت، وأن أكبر النار من مستصغر الشرر.