Ad

إن ثقافتنا الموروثة في بعض عناصرها السائدة مازالت تتوجس من «الاختلافات» وتنظر إليها بسلبية كونها تؤدي إلى الفرقة والتشرذم والفتنة، وهي أمور نهى عنها القرآن، وحذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تنبأ بافتراق الأمة إلى «73» فرقة، كلها في النار إلا واحدة.

حينما خاطب الله عز وجل رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: «أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» كان ذلك إيذاناً بإقرار الإسلام لحق الاختلاف. وتعزيزاً للتعددية الدينية وضماناً قوياً أمام البشر في خياراتهم الاعتقادية والعبادية، فإذا كان الرسول الكريم ليس من حقه فرض دينه على الآخرين بالقوة، إذ لا طريق أمامه غير «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» فمن باب أولى ليس من حق أي إنسان فرض معتقده على الآخرين.

ومن ناحية أخرى إذا كان الإكراه ممتنعاً في ما يتعلق بالأمور الدينية فمن باب أولى أن يكون ممتنعاً في ما يتعلق بالأمور الفكرية والسياسية والاجتماعية.

وفضلا عن ذلك فإن هناك العديد من الآيات المحكمة في كتاب الله التي تشرعن لحق البشر في الاختلاف باعتبار أن هذا الاختلاف مشيئة إلهية سابقة ومرتبطة بعلية خلق الجنس البشري، وأنه هو الغاية من وجودهم ولذلك فإن هذا الاختلاف سيبقى بقاء الإنسان في هذه الأرض.

يقول تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (*) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...» يقول المفسرون: خلقهم ليختلفوا ويتنافسوا من أجل إعمار الأرض وإثراء الحياة والتطور والتقدم، بل إن القرآن الكريم جعل من الاختلاف الكوني والطبيعي الإنساني «نعمة» و«مزية» وقد امتن الله على عباده بقوله: «ومن آياته خلق السموات الأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» ويؤكد القرآن في آية أخرى أن الاختلاف وسيلة للارتقاء والتجدد والتعارف الحضاري بقوله: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، ويجدر تأمل الإعجاز في كلمة «التعارف» التي تشمل أنواع التواصل الإنساني.

وأكاد أزعم أن خلق الإنسان ومجيئه إلى هذا الكون ونزوله إلى الأرض جنساًـ مختلفاً عن جنسي الملائكة والشياطين، مزوداً بالقدرات العقلية والنفسية والبدنية التي تؤهله لحرية الخيارات ومن ثم وصفه بـ«وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً» كل ذلك يفرض علينا نحن المسلمين الإيمان العميق بـ«حق الاختلاف» ثقافة وسلوكاً، والثمرة العملية لذلك، «قبول الآخر على علاته وكما هو» في معتقده ومذهبه وطقوسه كما قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله لماذا نضيق بالاختلاف؟

إذا كان القرآن قد قرر «الاختلاف» حقا إنسانياً مقرراً فلماذا نضيق به؟ ولماذا لا نتمثله في سلوكياتنا وعلاقاتنا بعضنا ببعض؟! لماذا نسمع الدعاة والمفكرين والمشايخ يكثرون من ترديد «حرية الحوار» وتأكيد «حق الاختلاف» والتظاهر باحترام «الرأي الآخر» نظرياً من دون أن نجد لهذه الأقوال تجسيداً عملياً على أرض الواقع؟! ولماذا نكرر مقولة «الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» ثم نجد أن الخلاف تحول إلى بغضاء وكراهية؟! الخلافات الطائفية تحولت إلى مواجهات دموية والخلافات المذهبية انقلبت إلى تعصبات مذهبية والخلافات السياسية إلى اتهامات تخوينية وتكفيرية والاختلافات الثقافية والحضارية مع الآخر الحضاري المتفوق أصبحت عداوات تصطبغ بالصبغة العقائدية.

قد لا توجد إجابة عن هذه التساؤلات، لكن أتصور أن ثقافتنا الموروثة في بعض عناصرها السائدة مازالت تتوجس من «الاختلافات» وتنظر إليها بسلبية كونها تؤدي إلى الفرقة والتشرذم والفتنة وهي أمور نهى عنها القرآن: «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات» كما حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تنبأ بافتراق الأمة إلى «73» فرقة، كلها في النار إلا واحدة، مما دفع كل فرقة للادعاء بأنها «الفرقة الناجية» الوحيدة والحكم على الفرق الأخرى بالنار!! هذا على المستوى العقدي أما على المستوى الفقهي فقد حرص أهل السنة والجماعة على القول إن مذهبهم هو الصحيح المتفق مع ما كان عليه السلف بينما المذاهب الأخرى ما هي إلا انحرافات عن الصراط المستقيم ولذلك كان الفقيه المنتمي إلى الجمهور حريصاً في هذا المناخ الثقافي الذي يذم الاختلاف على القول إن رأيه الفقهي يمثل «الإجماع» كوسيلة لإفحام الخصم المذهبي وتأثيمه.

* كاتب قطري