في مشروع اليسار الإسلامي يأتي تحرير الأرض أولاً ثم حرية الفكر ثانيا، فالوطن له الأولوية على الفرد، لا خصومة في الوطن وإن تعددت رؤى الأفراد «أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب». ومصلحة الجماعة لها الأولوية على مصلحة الأفراد، قد يؤثر بعض الليبراليين حرية الفرد أولاً، فلا وطن حر من دون مواطن حر، وقد تؤيد ذلك تجارب العرب المعاصرة في عصر الثورات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، فقد قامت حركات التحرر الوطني أولاً من أجل حرية الوطن ثم تحولت إلى نظم قاهرة للمواطن، فقد الوطن حريته واستقلاله بعد أن تم غزوه من جديد، وظل المواطن مقهوراً يحن إلى عصره الليبرالي الأول قبل ثورة الضباط الأحرار، ومع ذلك المواطن مستعد للمرة الثانية أن يتنازل عن حريته في سبيل حرية الوطن واستقلاله في فلسطين والعراق.

Ad

وما يمنع المواطن أن يكون حراً ليس فقط النظام السياسي الذي يقوم على القهر الخارجي بل هو القهر الداخلي مما يدفع المواطن إلى التنازل عن حريته طوعاً، ويأتي الخوف أولاً، فالحرية مخاطرة، تواجه قهراً خارجياً قد يصيب المناضل بعض الأذى ربما يصل إلى حد الاعتقال أو الاغتيال، وإيثار السلامة أفضل من المخاطرة بالنفس والمال والأهل والولد، وما أسهل تبرير ذلك بالنص « وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ». مع أن هناك نصوصاً أخرى تدفع إلى نبذ الخوف « الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، «الساكت عن الحق شيطان أخرس».

والتقليد أيضا أحد أسباب التنازل عن ممارسة الحرية اتباعا للأسلاف «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»، فاتباع القدماء وطلب الأمر لديهم خير من المغامرة مع المحدثين. والتقليد ليس مصدراً من مصادر العلم بل الاجتهاد، وماذا لو كان الآباء لا يفقهون ولا يعقلون؟ وقد تنبأ الرسول بتقليد الأمة لغيرهم، اليهود والنصارى «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ فقال: فمن؟». وقد يكون التقليد للعادات والأعراف واتباع الأمثال العامية التي تؤثر السكون والأمن مثل «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، والدعوة إلى الانعزال مثل «لا لينا فيها بيت ملك، ولا طين شرك»، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يدافع عن الأوطان إلا إذا امتلك فيه شيئاً، عقاراً أو أرضاً.

وقد يكون الخوف من «سي السيد» رمز السلطة والتسلط في الدولة، في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في المؤسسة والطريق العام، وقد يكون «سي السيد» شخصاً أو فرقة ناجية أو أيديولوجية سياسية مختارة، هو الأب والأخ الأكبر أو الأم أو الأخت الكبرى، هو المعلم الموجه والقائد، هو الزعيم والرئيس، صاحب العظمة والفخامة والسيادة والغبطة مدى الحياة، هو مصدر الخوف والقهر والتسلط، صاحب الأمر والنهي «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». والقتل جزاء من خرج على طاعة الإمام، في حين أن الخروج على الإمام الظالم واجب شرعي بعد استنفاد الوسائل السلمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والقضاء.

وينشأ عدم الثقة بالنفس والإحساس بالعجز من شدة الخوف وطول الاتباع، فتنزوي الحرية الطبيعية، وتنقلب إلى الداخل، وتصبح مجرد إمكانية لا تتحقق، ومجرد أمنية صعبة المنال، فتصاب النفس بالهلع والجزع في كل مرة تتفجر فيها الأحداث كالمظاهرات الطلابية أو العمالية أو اعتصام الموظفين أو حتى انتفاضات الأمن المركزي أي جهاز الدولة من داخله، ويسري الموت في الروح بتعبير السيد المسيح.

ولما كان الإنسان بطبيعته يؤثر السلامة، والتعايش مطلب الرزق، فقد يتنازل عن حريته طوعاً لا كرهاً، ويجد في الأمثال العامية ما يبرر موقفه «إن كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي». وهو ما عارضه القرآن بنقد إيثار الدنيا على حساب الآخرة «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى».

وتكون النتيجة إيثار السر على العلن، والخفاء على الجلاء، والهمس على الجهر، فتقع ازدواجية الخطاب والسلوك، من خلال القول باللسان من دون إيمان بالقلوب، والعمل بالأركان من دون اقتناع داخلي، وأصبح المواطن يقول ما لا يعتقد، ويعمل بما لا يؤمن به، ويكتب ما يريد على دورات المياه، وفي الأماكن السرية، وعلى عربات النقل في ما يسمى «هتاف الصامتين».

وهو وضع مصطنع وليس طبيعياً، وموقفاً زائفاً وليس أصيلاً، فقد يتفجر الضمير في النهاية حينما يصبح الهم والكذب والنفاق هماً على القلب «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». وكما قال السيد المسيح «ماذا ستكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك». كما تنفجر الثورات الشعبية بعد طول صمت وقبول الضيم. فـ«التاريخ قصة الحرية» كما يقول كروتشه، و«الوجود هو الحرية» كما يقول فلاسفة الوجود المعاصرون.

لقد عبر القرآن عن هذه المعاني بألفاظ أخرى مثل الصدق والإخلاص والإيمان والإسلام، الشعار هو التشهّد ويعني الإعلان عن الحق والجهر به وليس كالمثل الصيني «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم»، أو المسرحية الشعبية «شاهد ما شفش حاجة»، ويتكون من فعلين: نفي في «لا إله»، وإثبات في «إلا الله». يقوم الفعل الأول بنفي كل آلهة العصر المزيفة من مال وجاه وثروة وسلطان ونساء وقوة، ثم يقوم الفعل الثاني بعد تحرر الوجدان بإثبات المبدأ العام الذي يتساوى أمامه الجميع، فالشهادة فعل الحرية.

وقد ورد لفظ تحرير في القرآن الكريم خمس مرات بمعنى تحرير الرقبة أي رفض العبودية، تكفيراً عن ذنب مثل القتل الخطأ «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» وإن كان معاهداً فعلى القاتل دية مسلمة إلى أهل القتيل، «فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ». فإن كان ارتكب ذنباً فتحرير العبد تكفيراً عن هذا الذنب لأن العبودية جريمة «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ».

وقد ذكر لفظ «الحر» مرتين في القصاص « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى»، وهو التصور الفقهي للحرية في عصر كانت العبودية نظاماً شائعاً عند الفرس والرومان والعرب.

وذكر لفظ «محرر» مرة واحدة إثباتاً للحرية المساوية للوجود حتى للطفل قبل الولادة كما فعلت السيدة مريم « إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ»، فالحرية هي الطبيعة والفطرة، وهو معنى قول عمر بن الخطاب الشهير «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟».

هذا هو موقف اليسار الإسلامي من الحرية، ومن ثم كانت الليبرالية جزءاً منه، وهو القاسم المشترك الذي يلتقي عليه الجميع.

* كاتب مصري