الجوع

نشر في 02-11-2007
آخر تحديث 02-11-2007 | 00:00
 محمد سليمان

كان إحضار المصحف أو «رغيف الخبز» من قبل كبار القرية يخرجنا فوراً من دوائر الكذب والمراوغة، ويدفع المخطئ إلى الاعتراف بخطئه. فقد كان العمى أو زوال النعمة، ومن ثم الجوع، عقوبتين تنتظران الكاذب.

«الجوع كافر»... يقول الناس في القرى المصرية، و«الجوع يغري الأسود بالجيف»... كما قال المتنبي في إحدى قصائده... و«الجوع والجنس يحكمان العالم»... مقولة للقاص والروائي الروسي مكسيم غوركي، و«لن يجوع طفل حيثما تشرق الشمس ويهطل المطر»... قول للشاعر وليم بليك في قصيدته «الخميس المقدس». أما الكاتب الأميركي جاك لندن فرسم لنّا في إحدى قصصه لوحة رائعة للصراع من أجل البقاء بين رجل وذئب يزحفان على الجليد جائعين ومنهكين وكل منهما يسعى إلى افتراس الآخر، الذئب يناضل لكي يتغلب على الرجل ويلتهمه، والرجل بإصراره على البقاء لا يرى في الوحش سوى الوجبة التي ستنقذه. والجوع دفع الناس في أيام الخليفة الفاطمي المستنصر بالله إلى افتراس القطط والكلاب وكل شيئ يخطو أو يتحرك أو يدب على وجه الأرض.

الجوع داهم العديد من الشعراء والكتاب العرب والعالميين، ولوَّن أعمالهم، والجوع عنوان آخر روايات القاص والروائي محمد البساطي إذ يرصد فيها عودة الجوع بشراسته وتجبره إلى الحياة المصرية لكي يطارد الناس ويُسوِّد أيامهم. والجوع يسوق إلى الأطباء معظم المرضى المصابين بالضعف والهزال والأنيميا وأمراض عديدة أخرى.

والجوع يعني نقص الطعام أو ندرته أو اختفاءه. ولا يخلو أي مجتمع من أحد أشكال الجوع، لكن المعاناة تظل من نصيب المجتمعات الأفقر والأقل تقدماً. وفي القرى المصرية، لا يعني الجوع سوى ندرة الخبز سيد الطعام وراية المائدة وقاهر المجاعات، لذلك فهم في القرى والأحياء الشعبية يقدسونه ويسمونه «العيش»، أي الحياة، وكذلك يطلقون عليه «النعمة» ويُقْسِمون به.

وكان الكبار في القرى يرصوننا عندما يرتكب أحدنا خطأ ما أو جريمة صغيرة، ويطلبون من كل صبي أن يضع المصحف الشريف فوق رأسه أو رغيف الخبز على وجهه وعينيه، وأن يقسم قائلاً «بحق هذا المصحف الشريف، أو بحق هذه النعمة الشريفة... لم أرتكب هذه الجريمة». وكان إحضار المصحف أو «رغيف الخبز» يخرجنا فوراً من دوائر الكذب والمراوغة، ويدفع المخطئ إلى الاعتراف بخطئه. فقد كان العمى أو زوال النعمة، ومن ثم الجوع، عقوبتين تنتظران الكاذب.

وانعكس «تبجيل» الخبز على الفنون الشعبية والأغاني والسِيّر، وامتد إلى السينما، وأجبر الدولة منذ الخمسينيات على دعمه وتوفيره مع مواد غذائية أساسية أخرى بأسعار تناسب ملايين الكادحين والبسطاء ومحدودي الدخل؛ فقد كانت الدولة المالكة لمعظم المصانع والشركات والمؤسسات قادرة على ضبط حركة الأسواق والسيطرة على الأسعار ووضع البعد الاجتماعي في صدارة اهتماماتها. لكنها في الفترة الأخيرة، بسبب الخصخصة والتحولات الاقتصادية، لم تعد قادرة على القيام بتلك الواجبات، فاكتفت من جانبها بمناشدة التجار ورجال الأعمال، وبالحصول على شهادات من المؤسسات الاقتصادية الدولية تؤكد حسن أدائها الاقتصادي. وكأن هذه الشهادات ستوقف ارتفاع الأسعار، وتعالج مشاكل البطالة والإسكان والتعليم، وتنهي طوابير الخبز، وتضع حداً لظاهرة أطفال الشوارع الذين تسللوا من المدارس، ثم من المنازل، هرباً من الفقر والمعاناه، لكي يستجدوا، أو يسرقوا، أو يتحولوا إلى مجرمين أو إرهابيين.

وفي الفترة الأخيرة تفاقمت المعاناة بعد انفلات الأسعار، فراح الجوع يدق معظم الأبواب، ويدفع الناس إلى سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات، مطالبين بحقوقهم وبأجور تدفع عن أسرهم مخالب الجوع، رافعين في شركة «المحلة للغزل والنسيج» شعارات بسيطة للغاية، لكنها دالة كالمصابيح في الوقت نفسه «الإضراب مشروع مشروع... ضد الفقر وضد الجوع».

وكالعادة، سارعت الدولة إلى اتهام تيارات المعارضة والصحف الحزبية والمستقلة جميعها؛ بالصيد في الماء العكر، وإثارة العمال، وتحريضهم على التخريب والاحتجاج والتظاهر لزعزعة الأمن والاستقرار، رغم إعلان المحتجين أنهم لا يسعون إلى تحقيق هدف سياسي ما، ولا يطالبون إلا بحقوقهم، وأن أغلبهم أعضاء في الحزب الوطني الحاكم!

ويبدو أن الدولة، بسبب غياب العقل السياسي، لم تعد ترى الواقع وما يدور فيه، وتحسب أن اتهام خصومها أو قمعهم سيجمد التذمر وينهي الحراك السياسي والرغبة في التغيير، ناسية أن الجوع كان، وما زال، أعظم الزعماء السياسيين القادرين دائماً على إثارة الناس وتحريك الشارع ومحو الحضارات والإمبراطوريات.

* شاعر وكاتب مصري

back to top