بعد 90 عاماً... هل تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور؟!
إذا كانت فرنسا والولايات المتحدة أخيراً قد طالبتا بالاعتذار إلى الأرمن من جانب تركيا، فالأولى بهما، وبشكل خاص بريطانيا المسؤولة المباشرة، الاعتذار إلى العرب والفلسطينيين عن وعد بلفور، خصوصاً أن هذه المأساة لاتزال مستمرة ومتعاظمة.
في 2 نوفمبر 1917 أصدر آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك تصريحاً عُرف باسم «وعد بلفور» دعا فيه إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان هذا التصريح «الوعد» بمنزلة رسالة وجهها إلى اللورد روتشيلد جاء فيها: «يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين، التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء: إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف، وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع غير القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى».واختتم بلفور تصريحه بالقول: «إني أكون مديناً لكم بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني»!!وقد استندت الحركة الصهيونية إلى هذا التصريح لتحقيق برنامجها الذي دعا إليه المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في مدينة بال السويسرية عام 1897 استناداً إلى كتاب الأب الروحي لها تيودور هيرتزل «دولة اليهود The Jewish State» الذي صدر عام 1896، وبدأت تتحرك وفقاً لذلك وتمهّد لاحتلال الأرض، وفي ما بعد لاحتلال العمل والإنتاج واحتلال السوق، خصوصاً بالهجرة المنظمة إلى فلسطين، ومن ثم عبر جهود دبلوماسية دولية، حتى نجحت في إصدار القرار 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والمعروف بقرار تقسيم فلسطين عام 1947، وعلى أساسه أعلن قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948.لقد استند الوعد البريطاني إلى فكرة خاطئة بالمطلق ولا إنسانية بالكامل مفادها التنكر لوجود شعب عربي يعيش في فلسطين، «فالوعد» اعتبر الشعب الفلسطيني مجرد «جماعات غير يهودية مقيمة في فلسطين» وليس كياناً تاريخياً لشعب عريق يسكن على أرضه منذ آلاف السنين.لقد ترتّب ظلم تاريخي على الوعد البريطاني أدى إلى تشريد الشعب العربي الفلسطيني ومصادرة حقوقه الثابتة وغير القابلة للتصرف، واستندت الحركة الصهيونية إلى ذلك الوعد لإقامة الكيان الصهيوني، وانفتح الصراع على مصراعيه منذ ذلك التاريخ واستمر ما يزيد على 90 عاماً حتى الآن.وبما أن بريطانيا سعت إلى احتلال فلسطين بمقتضى اتفاقية سايكس-بيكو السرية، ومن ثم فرضت الانتداب عليه، فهي تتحمل نتائج هذا الوعد والمأساة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني، وإذا كان طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق قد اختير باعتباره وسيطاً دولياً، فإن شروط الوساطة هي النزاهة والحياد وعدم الانحياز إلى أحد أطراف النزاع، ولما كانت بريطانيا هي المسبّبة في احتدام هذا النزاع بإعطاء هذا الوعد غير الشرعي وغير القانوني، وعلى حد وصف القائد جمال عبدالناصر فإنه «وعد مَن لا يملك لمَن لا يستحق»، فهي بهذا المعنى ليست طرفاً محايداً أو وسيطاً نزيهاً لا في السابق ولا في الحاضر.ولكي يتحقق لبريطانيا ولطوني بلير شخصياً دور الوساطة فعليهما تقديم اعتذار رسمي إلى الشعب العربي الفلسطيني وإلى الأمة العربية على المآسي التي تسبّبت من جرّاء العدوان والحروب والنزاعات العسكرية وهدر الأموال وتعطيل التنمية والديموقراطية وخطط الإصلاح. لقد طالبت القمة العالمية ضد العنصرية في ديربن «جنوب أفريقيا» أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر 2001 الولايات المتحدة بالاعتذار إلى سكان البلاد الأصليين وأوروبا من الشعوب الأفريقية خصوصاً عن موضوع الاتجار بالرقيق وما ألحقه من أذى نفسي ومادي بتطورها بسبب السياسة الكولونيالية، وهو ما أقدمت بلجيكا على فعله بالاعتذار عن سياستها عام 2002.وإذا كانت فرنسا والولايات المتحدة أخيراً قد طالبتا بالاعتذار إلى الأرمن من جانب تركيا، فالأولى بهما ومعهما بشكل خاص بريطانيا المسؤولة المباشرة، الاعتذار إلى العرب والفلسطينيين عن وعد بلفور، خصوصاً أن هذه المأساة لاتزال مستمرة ومتعاظمة، إذ تتنكر إسرائيل لقرارات الشرعية الدولية، لاسيما القرارات 242 و338 و425 وغيرها، يضاف إليها القرار 181 الذي أقيمت إسرائيل على أساسه وتجاوزته لتحتل الأجزاء المتبقية من فلسطين وبعض الأراضي العربية، والقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين.عندما صدر تصريح بلفور «الوعد» لم تكن فلسطين فارغة من البشر، أي أن شعباً عربياً له امتدادات تاريخية كان يسكنها منذ الأزل، ولم تكن أرضها بلا شعب كما صوّرت ذلك الدعاية الصهيونية، التي حاول شامير وزير خارجية إسرائيل أن يروّجها عام 1991 عند افتتاح مؤتمر مدريد للسلام، وهذا ما ذهب اليه أخيراً حاييم رامون نائب رئيس وزراء إسرائيل حين وصف الجولان السوري بأنه كان فارغاً من السكان عام 1967.إن الاعتذار البريطاني المطلوب له أكثر من دلالة، الأولى هي الإقرار بأن إجحافاً بحق الشعب العربي الفلسطيني قد حصل ولابدّ من العمل على تصحيحه رغم مرور 90 عاماً، والثانية أن أي سلام حقيقي يتطلّب الاعتراف بهذه الحقيقة كاملة وغير منقوصة، وتلك تقضي بردّ الاعتبار إلى الشرعية الدولية، خصوصاً أن الأمم المتحدة كانت قد اشترطت لقيام إسرائيل التزامها باحترام ميثاق الأمم المتحدة، والثالثة أن أي جرد حساب موضوعي سيظهر مدى مخالفة «الوعد» قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 ولقواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والرابعة، أن الاعتذار البريطاني يعني مقاربة مبادئ العدالة الدولية، التي يعتبر إنشاء المحكمة الجنائية الدولية «ميثاق روما» الذي دخل حيّز التنفيذ في يوليو 2002 انتصاراً لها، خصوصاً أن الاستيطان يعتبر جريمة دولية بمقتضى بروتوكولي جنيف عام 1977، هذا عدا الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة وجريمة العدوان بحد ذاته.وقبل أن أختتم هذه المقالة أود أن أنوّه بالجهد المتميّز الذي بذله المفكر السوري الدكتور جورج جبور لإبراز وبلورة فكرة تحرّكٍ على المستوى الرسمي بما فيها جامعة الدول العربية، وعلى المستوى الشعبي خصوصاً لمؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والبرلمانات والاتحادات النقابية والمهنية العربية لعشر سنوات قادمة، لمطالبة العالم وبريطانيا تحديداً بالاعتذار إلى الشعب العربي الفلسطيني وتعويضه عما أصابه من غبن وأضرار طوال السنوات التسعين الماضية، وإنصافه باستعادة حقوقه الثابتة وغير القابلة للتصرف. وقد باشر جبور بإصدار كتاب عشية الذكرى بعنوان «وعد بلفور» وذلك بدعوته إلى اعتبار يوم الثاني من نوفمبر يوماً مشهوداً عربياً وإسلامياً وعالمياً ببرنامج عمل يمتد من عام 2007 إلى 2017، وفي رسالة وجهها باسمه إلى الأمين العام للأمم المتحدة لتخصيص قاعة لبحث موضوع إلغاء وعد بلفور مثلما خصصت قاعة عام 1985 بعد مرور 10 سنوات على صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري (10 نوفمبر 1975)، للمطالبة بإعدام هذا القرار، الذي ألغي في 16 ديسمبر 1991.وقد دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى تبنّي الفكرة والتحرك بوسائل إعلام دولية ودبلوماسية لإضاءة ما رتبّه الوعد من ظلم بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه.إن دعوة المفكر جبور وتأييد عمرو موسى تتطلبان دعماً دبلوماسياً عربياً وإسلامياً وحشداً إعلامياً وإسناداً وتضامناً من جانب مؤسسات المجتمع المدني ليبقى وعد بلفور في دائرة الضوء، ولعل في ذلك ولو وخزة لما تبّقى من ضمائر!!* كاتب ومفكر عراقي