Ad

تولت المؤسسة العسكرية الحكم في كثير من البلدان العربية بعد الاستقلال وبعد انسحاب جيوش الاستعمار الأجنبي منها، وخلع ضباط هذه المؤسسة خوذاتهم، ولبسوا الملابس المدنية. ولكن العقل العسكري ظل في رؤوسهم من دون أن يحلَّ محله عقل مدني يؤمن بالمجتمع المدني ومؤسساته.

لا شك أن صعود المجتمع العسكري العربي بعد الاستقلال مباشرة، وتوليه مقاليد الحكم في معظم البلاد العربية ما عدا دول الخليج، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى فشل الوطنية بعد الاستقلال الوطني، بالإضافة إلى عدم وجود نخب سياسية واعية وقادرة على إدارة دفة الحكم في البلاد إدارة سليمة وناجحة، نتيجة لتخلف العالم العربي أثناء نيل دوله الاستقلال الوطني. وما زال العالم العربي يعاني حتى الآن فقدان النخب العربية السياسية ذات الشفافية ونظافة اليد، والمؤهلة للحكم النزيه.

كان هناك شعور قوي لدى الشارع العربي بأن المؤسسة العسكرية أقدر من المؤسسة المدنية على حل مشاكل الأمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. في حين أن الجيش عموماً ليس لديه حل سحري للمشاكل المستعصية في الوطن، ولا يستطيع ذلك في الواقع، لأنه يواجه الأسباب والعوامل نفسها التي كان قد واجهها الحكم المدني، وفشل في حل هذه المشاكل. فمحاولات الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي النسبي، في معزل عن الإصلاح السياسي الجذري، تبدو ساذجة في أحسن حالاتها. فالأول لا يمكن تحقيقه بمعزل عن الآخر.

فلا توجد ديموقراطية لا يقودها ديموقراطيون.

ولا يوجد إصلاح لا يقوده إصلاحيون.

من أين جاءت فكرة تسييس الجيش؟

ولعل فكرة تسييس الجيش ونجاحه في ضبط الحياة السياسية في بعض الأحيان، تأتت من أن الجيش هو المؤسسة القادرة على فرض النظام بالقوة وعلى كبت مظاهر السخط بالقوة. ومن هنا نرى أن تنامي المؤسسة العسكرية كقوة سياسية، تبرز عندما يزداد ضعف القوى السياسية المدنية، وتزكم رائحة الفساد السياسي للأحزاب والنخب السياسية الأنوف. وهذا ما حصل في معظم بلدان العالم العربي عشية الاستقلال الوطني ورحيل الاستعمار وقيام الحكومات الوطنية. وقال محمد حسنين هيكل «في الظروف التي تميز صراع الطبقات في البلدان المختلفة، ونظراً إلى شعور الجماهير الشعبية واعتقادها بأن القيادات الحاكمة لا تمثل سوى مصالح متناقضة بطبيعتها مع مصالح الجماهير، لا تستطيع الحركة الثورية الشعبية إلا الاعتماد على الجيش لتشق طريق الثورة. وفي نظر العسكريين الذين يميلون إلى الاستئثار بالسلطة، على الجيش أن يبقى القوة الأساسية في السلطة». (الأهرام، 27/7/1962).

أسباب صعود المؤسسة العسكرية

يرى كل من أندرو جودباستر وصموئيل هينتنغتون، أن المؤسسة العسكرية في العالم كله قد أخذت في الصعود خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو زمن الاستقلال في العالم العربي الذي بدأ في الأربعينيات (سورية ولبنان) وانتهي في 1970 (الإمارات العربية المتحدة)، نتيجة لأسباب كثيرة على رأسها، ظهور تغيرين كيفي وكمي هائلين في وظائف المؤسسة العسكرية. حيث أصبحت المؤسسة العسكرية أداة سياسية لمنع انتشار الحروب على مدى واسع، والقيام بإنهاء الصراعات الإقليمية. إضافة إلى ذلك ظهور ظاهرة العسكرة Militraization في المجتمع العربي، وهي عملية توسيع نطاق المؤسسة العسكرية داخل المجتمع، ووجود توجه عام في الدولة وفي مؤسسات المجتمع المدني تعتبر الحرب والاستعداد لها نشاطاً مجتمعياً طبيعياً ومرغوباً فيه. ويميل بعض الباحثين كصموئيل هينتنغتون إلى القول إن للمجتمع العسكري ضرورات وظيفية للقيام بها في مجتمعات بلدان العالم الثالث بخاصة. وهي ضرورات لا تستطيع الإدارة المدنية القيام بها لعدم تأهلها الإداري والعلمي. وأن المؤسسة العسكرية أقدر من أي مؤسسة أخرى على القيام ببناء المجتمعات في دول العالم الثالث. ومن الملاحظ أن هينتنغتون يبني مقولته من خلال واقع المؤسسات العسكرية في الغرب خصوصا في أميركا. وهي المؤسسات التي تعتبر من أكبر مؤسسات الدولة وأكثرها تنظيماً وعلماً وخبرة في مختلف المجالات.

فهل قامت المؤسسة العسكرية العربية بعد تحقيق الاستقلال للدولة العربية القطرية الحديثة بالدور التحديثي المطلوب منها، كما وصفه هينتنغتون؟

خصائص المجتمع العربي الذي حكمته المؤسسات العسكرية

لقد تولت المؤسسة العسكرية الحكم في كثير من البلدان العربية بعد الاستقلال وبعد انسحاب جيوش الاستعمار الأجنبي منها، وخلع ضباط هذه المؤسسة خوذاتهم، ولبسوا الملابس المدنية. ولكن العقل العسكري ظل في رؤوسهم من دون أن يحلَّ محله عقل مدني يؤمن بالمجتمع المدني ومؤسساته. وقد رأينا مثل هذا الوضع في مصر وسورية والعراق والجزائر. ونظرة شاملة إلى هذه البلدان ترينا أن النتائج لم تكن حسنة في هذه البلدان نتيجة لخصائص وصفات المجتمعات العربية التي حكمتها المؤسسة العسكرية ومنها:

1 - ضعف الطبقة المتوسطة وضعف قواها المدنية وأحزابها بسبب حداثة عهد المجتمع العربي بالظاهرة الحزبية، ثم بسبب غياب المؤسسات الاجتماعية الحديثة والمنظمة.

2 - فساد الحياة السياسية الليبرالية في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات، وهشاشة التجربة الليبرالية في سورية، وعدم وجود حياة سياسية ليبرالية في بقية البلدان العربية ما عدا لبنان، مما لم يوفر للطبقة الوسطى دوراً سياسياً يناسب حجمها. وعندما توافر هذا الحجم لم يتوافر من خلال المجتمع والأحزاب ولكنه توافر من خلال سلطة الدولة.

3 - عدم احترام المؤسسة العسكرية مؤسسة السياسية، بحيث أصبحت المؤسسة العسكرية هي التي تدير المؤسسة السياسية وليس العكس كما هو الحال في الدول الديموقراطية.

فشل المؤسسة السياسية في ملء الفراغ السياسي وانتشار الفساد الإداري والمالي في هذه المؤسسة. وهو ما يُعبّر عنه بـ«تصدع بنيان النخبة المدنية الحاكمة، بما يترتب عليه الهبوط بمستوى الفعالية النظامية إلى أدنى مستوى، وبالتالي نفاد صبر الجماهير واستنفار القوى السياسية والاجتماعية، ووضع المجتمع كله على شفا الفوضى والعنف»، كما قال مجدي حماد (العسكريون العرب وقضية الوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987، ص 278).

4 - وجود أزمات اقتصادية متلاحقة نتيجة للفساد لسياسي، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، وإخفاق معظم الخطط الاقتصادية التي وضعها السياسيون.

الأضرار التي ألحقتها «العسكرتاريا» بالدولة العربية الحديثة

إن المؤسسة العسكرية التي حكمت أجزاءً متفرقة من العالم العربي، وأعاقت بناء الدولة الحديثة، ولم تعطِ المدنيين والنخب السياسية الفرصة لكي يمارسوا حقهم في التجارب السياسية بعد الاستقلال، قد أضرّت كثيراً بالمجتمعات العربية وأعاقت كثيراً نمو المجتمع المدني وأركان الدولة العربية القطرية الحديثة.

والمؤسسة العسكرية التي حكمت أجزاء من العالم العربي لم تكن مؤسسة بالمعنى المدني لهذه الكلمة. ولم تقم دولة بعد الاستقلال ذات أركان واضحة بالمعنى السياسي العلمي. «فالدولة ليست إقليماً أو شعباً، ولا هي مجموعة من القواعد الملزمة. كل هذه العوامل ليست بالتأكيد غريبة عنها، ولكنها تضعها فوق المعرفة المباشرة. فوجودها لا يتعلق بالظاهرية الملموسة. إنه شأن ذهني. فالدولة بالمعنى الكامل للكلمة هي فكرة. ولا تدرك إلا بالفكر». وعندما حكمت «العسكرتاريا» جزءاً من العالم العربي لم تأتِ بالفكر السياسي أو من خلاله. ولم يكن لديها أي فكرة سياسية أو أي مخطط سياسي وكان كل ما في الأمر أن تستولي على الحكم. ومن هنا، تعدد الانقلابات العسكرية في دول عربية وعلى رأسها سورية في الفترة الواقعة بين عامي 1949 – 1970.

*كاتب أردني