من المفترض أنه كلما طال عمر الإنسان وتنوعت تجربته على الأرض ازدادت معرفته بنفسه وبمن حوله. ومن المفترض أن الأديان والشرائع والنظريات الفلسفية والأدب والفن كلها مجتمعة، هي لتهذيب النفس البشرية وتشذيبها وكبح جماح وحشيتها وعدوانها وإدخال نفحة من التعقل والتسامح والسمو عليها. لكن المتأمل في الواقع الذي نعيش يرى غير ذلك، فالعنف الأعمى يتأجج بين البشر يوماً إثر يوم، وإنسان اليوم مقارنة بمن سبقه هو الأكثر دموية وبطشاً في مَنْ حوله، تتفتق عبقريته عن وحشية مخيفة تتسلط على أخيه الإنسان ولا توفر في طريقها الحيوان والنبات وعناصر الطبيعة كافة.

Ad

إن حلبات مصارعة الثيران في أسبانيا والمكسيك ودول أخرى في أميركا اللاتينية غدت مكاناً ومسرحاً جاذباً لمئات الألوف من المشاهدين والسياح، وإن أبطال هذه المصارعة نجوم يشار إليهم بالبنان، لا لشيء إلا لكونهم يتفننون في استباحة دم الحيوان (الثور)، ويتفننون في إذلاله، متلذذين بمنظر دمائه الحارة وقتله البطيء، على مرأى وحماسة وتشجيع من جمهور غفير يغطي هتافه المجنون والوحشي على أنات الثور البائس.

إنني إذ أتابع بضيق للحظات مشهداً من مصارعة الثيران لأستغرب إصرار الإنسان على التلذذ في إثارة حيوان مسكين، ومن ثم الإجهاز عليه من باب إثبات القوة والقدرة على المواجهة، وترتفع بين الأسئلة دائماً: منْ يثير منْ؟ ومنْ يتصدى لمنْ؟ ومنْ تراه يخطط لقتل الآخر لينتقم منه؟ وأخيراً منْ هو المنتصر في هذا النزال غير العادل وغير المتكافئ؟

إن نزالاً وصراعاً يقف فيه الإنسان نداً للحيوان يقول بشكل واضح إنهما في الموقف متساويان وأن أحدهما خصم للآخر. وإذا أخذنا في الحسبان أن الثور يأتي بغير إرادته جاهلاً ما ينتظره، وأن الإنسان المصارع والمتفرج يقصد الحلبة بنية مبيته لقتل الثور والتمتع بمشهد موته، فإنه يبدو جلياً أن الإنسان وحده وليس الثور مَنْ يسكن الوحش قلبه وتحتل الضغينة جنبات روحه، وأنه الإنسان وليس الثور منْ يصول ويجول في مسرح الجريمة متغطرساً بجرمه، متباهياً بدمويته. وإذا كان الثور يجنّ لمرأى اللون الوردي فإن الدم وحده هو اللون الذي يروي غليل الإنسان المتعطش للبطش والتباهي بالقتل. معادلة بسيطة تظهر أن قلب الثور أبيض، وأن الثور الحيوان ربما يكون أكثر هدوءاً وتسامحاَ وحباً للآخر من الإنسان ! وأن الإنسان لا يقبل لنفسه إلا أن يكون ظالماً قاتلاً، حتى لو كان ظلمه وقتله من دون مبرر !

حلبة مصارعة الثيران وصف لحلبة وثيران، لكن ربما استحق منا الاسم التأمل في من هم المتصارعون ومن هم الثيران؟ وأياً تكن الإجابة سأبقى أردد : مجداً رفيعاً أيها الثور المسالم !

طالب الرفاعي