لاعبو الطائرات الورقية
شرعتُ في قراءة رواية «لاعبو الطائرات الورقية» للأفغاني-الأميركي خالد حسيني، بعد أن عرفتُ أن الفيلم الذي أعِـدَّ عن الرواية على وشك أن يُعرض في لندن.
متعة أن تقرأ رواية، لتراها وهي تتحول إلى مشاهد بصرية في فن بعيد عن فن الأدب. خالد حسيني وُلد في كابول، في مرحلة الاستقرار الملكية. ثم رحل مع الأب الدبلوماسي لاجئا سياسيا، إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1980. هناك درس الطبابة. لكنها لم تخفف من ثقل ميله الأدبي إلى الكتابة الروائية. «لاعبو الطائرات الورقية» روايته الأولى، أصدرها عام 2003 وحققت حينها نجاحا واسعا تواصل إلى اليوم. عبر سيرة صبي من الطبقة المتوسطة، يَعرض المؤلف للتحولات الدامية التي حلّت بأفغانستان عبر ثلاثة عقود: المرحلة الملكية، الجمهورية، الاحتلال السوفييتي، ثم هيمنة طالبان. الأحداث تجري في أفغانستان أولا، في سنوات الصبا لـ «أمير» ابن العائلة الثرية من «الباشتون»، وعلاقته الحميمة مع الصبي «حسن» ابن خادم العائلة من «الهازارا»، العنصر القومي الأقل سطوة، ثم في أميركا عندما يبلغ «أمير» سن الشباب. «أمير» هذا لم يفلت من أزمة ذنب تلاحقه طيلة سنوات عمره، منذ تعرّض صديقه الخادم «حسن» للاعتداء والاغتصاب أمام عينيه، من قِبل صبية أشرار من «الباشتون»، ولم يحاول مساعدته. شخصية الأب، رجل الأعمال، رائعة في الرواية. فهو شديد مع النفس، شديد مع الآخر، قاس، عنيد ومكابر، لكنه في جانبه الخفي مُحبٌّ، نبيل، عادل وذو رأي. الفيلم حاول جاهدا أن ينافس الكلمات في الرواية لتقديم هذه الشخصية المركّبة، وكذلك مع أزمة الصبي الذي ألمَّت به مشاعر الذنب، فهي سرعان ما تحولت في داخله إلى رغبة غامضة في تجريح «حسن» الصديق والضحية، كان يريد من الصبي الخادم أن يقابله قسوة بقسوة، أن يعاقب جبنه وخيانته، لكن «حسن» ظل أمينا لمحبته ووفيّـاً. مشاعر على درجة عالية من التعقيد، حاول الفيلم أن يسبر غورها أسوة بالكلمات، لكن النثر الروائي عادة ما يملك أدوات السبر أكثر من أي فن. في القسم الأخير من الرواية، تفاجئنا أحداث تليق بحكاية شعبية، فالولد الشرير الذي اعتدى على «حسن» يُطل علينا في مرحلة هيمنة طالبان السوداء، وقد أصبح أحد أكثر عناصرها شرورا، يمارس البغاء في شرائه الصبيان من دار الأيتام، وبحكم الصدفة يكون «سوهراب» ابن «حسن» أحد هؤلاء، وكأنه أصبح كذلك بالضرورة، ولقاؤه بالبطل «أمير» يتم بحكم الصدفة أيضا، التي أصبحت يسيرة جاهزة، شأن الصدفة في الحكايات الشعبية. أمر أضعفَ الرواية والفيلم معا. الفيلم أبلغُ تأثيرا واستثارة للعاطفة، وجود أطفال معرضين للتنكيل يمنح العين أكثر من مناسبة لأن تبتل بالدموع. المخرج «مارك فورستر» ماهر في ذلك. ماهر في جعل الطائرات الورقية، الأسواق، زحمة الناس، الممثلين، والصغار خاصة، والموسيقى، في حوار هارموني. الغريب أن الممثلين الصغار الذين عانوا في أدوارهم داخل حكاية الفيلم كثيرا من الأذى والقمع، يعانون اليوم خارج أدوارهم وبسبب الفيلم، مزيدا من هذا الأذى والقمع، فقد أجّلت شركة توزيع الفيلم إخراجه إلى الناس ليتسنى لها أولا إخراج الممثلين الصغار الثلاثة من كابول، خشية تعرضهم للهجوم والأذى من قبل جمهور «الهازارا»، وجماعات «طالبان» المتطرفة، بسبب أدوارهم في مشهد الاغتصاب، وللعرض الواقعي لمشكلة العنصرية العِرقية والطائفية في المجتمع الأفغاني، خاصة بين «الباشتون»، العنصر القومي المستحوذ على السلطة والحياة، وبين «الهازارا»، العنصر المُستضْعَف. والأغرب أن منتجي الفيلم استعانوا بأفراد من متقاعدي الـ (C.I.A)، ممن لهم خبرة في المنطقة، للذهاب إلى كابول لحماية الممثلين الصغار وعائلاتهم، ولمحاولة تهريبهم إلى دولة الإمارات، وتوفير إقامة آمنة لهم هناك. لقد اختار المخرج ممثليه الصغار أفغاناً من كابول، وعرض على آبائهم الحكاية، ومشهد الاغتصاب ضمنا، مخافة الاعتراض والرفض، لكن أمرا من هذا لم يحدث إلا بعد الانتهاء من إنتاج الفيلم، لذلك بقي المخرج متفائلا بشأن رسالة الفيلم الإنسانية، التي تمنح «صوتا ووجها» للذين حُرموا من إبراز صوتهم ووجههم طيلة ثلاثين عاما.