Ad

صرنا نبتكر طرائق شتى لوصف شيء وهمي في السماء لا وجود له على الإطلاق. وفي غضون ثلث ساعة تقريباً كان عدد المارة الذين تجمعوا حولنا يكفي لإطلاق مظاهرة محترمة، وكان الجمع يزداد بمر الدقائق، والكل متجه بنظره نحو الجهة التي أشرت إليها، بل إن معظم الواقفين كان يرفع إصبعه ويشرح الشكل للواقف بجواره.

للكاتب الايطالي (ايتالوا كالفينو) قصة قصيرة جداً من أعماله المبكرة عنوانها (الرجل الذي نادى تيريزا).. وتكاد القصة كلّها تتلخص في العنوان نفسه، فهناك رجل واقف على ناصية الشارع أمام مبنى سكني، ينادي بأعلى صوته (تيريزا)، ومع مرور الوقت يتجمع حوله حشد من الفضوليين الذين يؤازرونه بالمناداة لعل علوّ صوتهم مجمعين سيجعل تيريزا تسمع النداء فتظهر.

وبعد وقت طويل، يخطر لأحد المحتشدين أن يسأل المنادي عما إذا كان متأكداً من أنها موجودة في البيت، فيجيب بالنفي. ثم يسأله آخر عما إذا كان قد نسي مفتاح البيت، فيجيبه قائلا: (كلا.. مفتاحي معي، لكنني لا أقيم هنا)! عندئذ يسأله أحدهم بدهشة: (إذن، لماذا أنت تنادي تيريزا هنا؟) فيجيبه ببساطة متناهية: (يمكننا أن ننادي أي اسم آخر.. أو فلنجرب المنادة في مكان آخر إذا شئتم)!

وواضح جداً من هذه الإجابة أن الرجل كان يعبث ليس إلا، ومع ذلك فقد ظل الحشد يزداد، وظل النداء يرتفع، إلى أن داخل المحتشدين التعب والملل، فراحوا ينصرفون تباعاً، بمن فيهم الرجل العابث، لكن الأخير، بعد أن قطع مسافة طويلة، تناهي إلى سمعه صوت وحيد مرتفع، آت من الناصية، لرجل مازال واقفا هناك ينادي: تيريزا!

المغزى الذي تطرحه هذه القصة هو المغزى نفسه الذي طرحته تجربتي الشخصية قبل ما يقرب من أربعين عاما، فقد وقع لي أنا أيضاً أن أفعل، في فترة مراهقتي، ما فعله ذلك الرجل العابث في قصة كالفينو.

حدث هذا عند وصول عصابة «البعث» ثانية إلى الحكم عام 1968. ففي غروب أحد الأيام الأولى لنزول ذلك المد الشيطاني على البلاد، كنت أتمشى على الرصيف المقابل لشط العرب، مع مجموعة من الأصدقاء، عندما زفر أحدهم متسائلاً: كيف أمكن لهؤلاء أن يأتوا ثانية؟ لقد كانت تجربتنا معهم في عام 1963 مصبوغة بالدم الذي لايزال طرياً في الذاكرة، وكانت فترة مكوثهم التي لم تتجاو الاشهر التسعة تعادل تسعة دهور لفرط هولها، فكيف تسنى لهم بعد محقهم أن يعودوا بهذه السرعة؟!

وقال آخر: لا عليك، سيزولون بأسرع مما زالوا في المرة الأولى. إن آثار الكي مازالت على القلوب. لن تجد أحداً يؤيدهم، وستعصف بهم الجماهير التي لا تنسى.

ولأنني كنت قد قرأت في تلك الفترة كثيراً من آراء بعض علماء الاجتماع العراقيين حول البنية (القطيعية) للجماهير، خصوصاً في المجمعات المتخلفة، ووجدت تصديقاً لتلك الآراء في الشواهد التاريخية القديمة والحديثة التي طرحوها، فانني سفّهت القائل الآخر، وقلت بحدّة: إن جماهيرك تنعق مع كل ناعق وتجري في أثر كل آفاق، ويمكن لأي محتال أن يقودها في الاتجاه الذي يريد، ثم يتركها لمصيرها. أما القلة الواعية، وهي دائماً قلة، فإنها ستسحق تحت أحذية جماهيرك قبل أن تنطق، إذا هي حاولت تنبيه تلك الجماهير إلى خطورة الدرب أو كذب القائد.

ثم خطر لي، بما يشبه الجنون، أن أضع تلك الآراء موضع التطبيق الفوري، فطلبت من أصدقائي أن يعبروا معي إلى الرصيف المقابل، وحين وصلنا إلى شاطئ النهر، رجوتهم، عندئذ، أن يجاروني في كل ما أفعل أو أقول.. ثم أنني مددت ذراعي عاليا، ورفعت إصبعي للسماء، فيما رأسي يلتصق برؤوسهم، وقلت بصوت تعمدت أن أجعله في متناول آذان المارة: هناك.. أنظروا.. هل رأيتموه؟ اتبعوا طرف إصبعي.. أترون؟ شكله هلامي ويتجه للأسفل. ولم يخذلوني، فقد ردد أحدهم بعفوية مصطنعة: نعم.. رأيته الآن. أعتقد أن سرعته قد خفت قليلاً، لكنه يبدو لي مثل الإسفنجة!.

وصرنا نبتكر طرائق شتى لوصف ذلك الشيء الذي لا وجود له على الإطلاق. وفي غضون ثلث ساعة تقريباً كان عدد المارة الذين تجمعوا حولنا يكفي لإطلاق مظاهرة محترمة، وكان الجمع يزداد بمر الدقائق، والكل متجه بنظره نحو الجهة التي أشرت إليها، بل إن معظم الواقفين كان يرفع اصبعه ويشرح الشكل للواقف بجواره، بل إنني بأذني هذه التي سيأكلها الدود سمعت أحدهم يقول لجاره: إنه يتجه للأسفل. هو هلاميّ.. قد يكون مذنّباً!

دعوت أصدقائي بهدوء للخروج من المعمعة، وعدنا إلى حيث كنا على الرصيف المقابل، وعندئذ سألت صديقنا المتفائل: إلى ماذا ينظر جمهورك هذا؟ ألا ترى أننا كان يمكن أن نلتحق بهذه المظاهرة كالآخرين لو لم نكن نحن من صنعناها؟!.

قال فيما هو يواصل الضحك مثلنا جميعاً: كلا.. نحن أعقل من أن نتابع أمراً دون أن نسأل عنه عن كنهه، وإذا لم نلقَّ جواباً معقولاً، فسنلوم جميع الواقفين على حماقتهم، ونمضي في طريقنا.

قلت له بثقة بالغة: أجزم أنهم سيورمون جسدك بالنعال قبل أن تمضي في طريقك، وأجزم أن أكثرهم قسوة في ضريك سيكون آخر ملتحق بالمظاهرة.. أي أشدهم جهلاً بحقيقة الموضوع.

وسرنا، قاطعين طريقنا بالضحك، لنقطع بعدها عشرات الأعوام بالبكاء المر!

ولايزال بكاؤنا المر مستمراً بين من ينادي تيريزا أو من يشير إلى الشيء الهلامي، وكلاهما يتجه بجماهير شعبنا.. إلى الأسفل!

* شاعر عراقي