«الحزب الحاكم» مدرسة لتخريج كوادر سياسية قادرة على تصريف الأمور العامة، وإدارة الأزمات، والنهوض بالوطن، والحرص على أن يشكل موقعاً ذا بال على الخريطة العالمية. أما «حزب الحاكم» فيقتل، في سيره اللاهث نحو مزيد من التسلط والانتفاع، أغلب الكوادر ذات الكفاءة واللياقة، ولا يسمح بأن يطفو على السطح سوى المفسدين، وخربي الذمم.

Ad

هناك فارق كبير بين «الحزب الحاكم» كـ«العمال» في بريطانيا و«الجمهوري» في الولايات المتحدة، و«حزب الحاكم»، كما هي الحال في كثير من دول العالم العربي. فالأول مؤسسة لها جذور، لا تنقضي أو تنفصم عُراها إن غادرت السلطة أو باتت في الظل إلى حين. أما الثاني فيدور حول شخص الرئيس أو «الزعيم»، وقد ينتهي بموته أو خلعه، أو يعيد تشكيل نفسه حول الحاكم الجديد، بالاسم ذاته، أو تغيير طفيف أو كبير في اللافتة أو العنوان، مع بقاء الجوهر من دون أدنى تعديل.

الأول يشهد عملية متكاملة وناضجة في صنع القرار واتخاذه، بما يخرجه في أقصى درجة رشد ممكن. أما الثاني فشغله الشاغل، هو مباركة قرارات الحاكم، أو تحويل خطبه العصماء، وتوجيهاته الشفاهية الانفعالية وغير المدروسة، إلى سياسات، بأقصى سرعة ممكنة، ما يجعل القرارات في أدنى درجات الرشد، إن لم تكن مدمرة، للآني والآتي معاً.

الأول لديه قدرة على تجنيد الأنصار والأتباع المؤمنين ببرنامجه ومسلكه في كل وقت وأي مكان داخل الدولة، أما الثاني فلا يضم سوى «شلة من المنتفعين»، الذين لا تجمعهم الأفكار والإيديولوجيات، وإن زعموا عكس ذلك، إنما تلم شملهم المصالح الوقتية الضيقة، والتي تقوم في الغالب على اغتصاب حقوق الآخرين، في عملية نهب منظم لا يردعها قانون، ولا يكبح جماحها ضمير.

الحزب الحاكم مدرسة لتخريج كوادر سياسية قادرة على تصريف الأمور العامة، وإدارة الأزمات، والنهوض بالوطن، والحرص على أن يشكل موقعاً ذا بال على الخريطة العالمية. أما حزب الحاكم فيقتل، في سيره اللاهث نحو مزيد من التسلط والانتفاع، أغلب الكوادر ذات الكفاءة واللياقة، ولا يسمح بأن يطفو على السطح سوى المفسدين، خربي الذمم، ويحارب كل من يرتقي السلم السياسي والاجتماعي والثقافي بعيداً عن مسلك الحزب ورجاله.

الأول يسود فيه نقاش حول الأفكار والسياسات، وتكون القيمة العليا هي الصراحة والشفافية، والعمل الدؤوب في سبيل أن يبقى الحزب في السلطة أطول فترة ممكنة، ليس باغتصابها، لكن من خلال النجاح في جذب الجماهير، كي تصوت لمصلحة سياسات الحزب ورموزه. أما بالنسبة للثاني فإن القيمة السائدة هي النفاق، الذي يبدأ متسلسلاً، من الصغير إلى الكبير، ومن الجديد في العضوية إلى القديم، ومن المهمش داخل الحزب إلى المتمكن المقرب من الحاكم، بفعل المصلحة أو صلة القربى. وهنا لا يعمل أحد من أجل المصلحة العامة للحزب، وإنما يتخذ منه مطية للوصول إلى أهدافه الشخصية البحتة، سواء كانت تولي منصب غير مستحق، أم تحصيل مال بطرق غير مشروعة، أم التهرب سريعا من التزامات تفرضها الجماعة الوطنية، في إطار منظومة الحقوق والواجبات.

الحزب الحاكم يقيم شرعيته على اختيارات الناس وإرادة الشعب التي تترجمها صناديق الاقتراع، عبر انتخابات تشريعية شفافة ونزيهة ومتكافئة، ويتم تحديد هيكل السلطة وطريقة توزيع المهام داخله من خلال الاحتكام إلى اختيارات أعضائه. أما حزب الحاكم فيقيم وجوده على شرعية التغلب، أي اللاشرعية، ويظن أعضاؤه أنهم ليسوا بحاجة إلى الجماهير في شيء، بل إنهم يدّعون أن لهم فضل على الناس بقبولهم تلك المواقع المتقدمة في العمل السياسي العام، مع أن أحدا لم يطلب منهم ذلك، وليس هناك من يريد بقاءهم في السلطة، بل قد يظنون أن شخص الحاكم مصدر الشرعية الأساسي والوحيد، ثم ينسجون أكاذيب حول قدراته الفائقة وحكمته وبصيرته النافذة واحترامه وهيبته في مشارق الأرض ومغاربها.

الأول يؤمن بحق أحزاب المعارضة في الوجود، ويتخلى طواعية عن السلطة حال هزيمته في الانتخابات، ويعمل بطريقة سلمية من أجل العودة إليها. أما الثاني فهو إن جاد على البلاد بأحزاب غيره، فإنه يصنعها على عينيه وعلى يديه، بحيث تصبح مجرد طلاء لجدران النظام، أو ديكورا يحاول أن يزين به قبح الأوضاع ويخفي تردي الأحوال.

مع الأول نطمئن إلى حاضرنا ومستقبلنا، بقدر ما تصل مخيلاتنا وأحلامنا البشرية، ونصدقه إن قال إنه يريد «الإصلاح» أو «التحديث والتطوير». ومع الثاني نتحسس أعناقنا إن تلفظ بكلمة «تصحيح»، ونضحك بأصوات مجلجلة إن قال كلمة «إصلاح»، لأن الإصلاح الحقيقي يعني ببساطة، ومن دون أي مواربة ولا مجاملة ولا تردد، إزاحة «حزب الحاكم» تماماً.

كاتـب وباحـث مصري