إن الرئيس بوش، منذ بداية عهده، قرر أن يتوّج الولايات المتحدة ملكة النفط الوحيدة في العالم، كخطوة ضرورية للسيطرة على الاقتصاد العالمي. والخطوة الأولى هي العراق، فإذا نجحت بات الطريق أمام تحقيق هذا الحلم مفتوحاً بكل أبوابه.«إصرار الرئيس بوش، مع صقور إدارته، على البقاء عسكرياً في العراق، متجاهلاً الأصوات العالية التي تطالبه برحيل قواته، أو على الأقل بوضع جدول زمني، يأتي من رحم تمسكه الشديد بتنفيذ خطته في التحكم بنفط العراق تمهيداً للسيطرة على نفط المنطقة العربية كلها». «آلان غرينسبان» (Alan Greenspan) أطلق رصاصة الرحمة على المقولات بأن السبب الرئيسي لغزو العراق هو أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة إبان الغزو، كذلك الادعاء بأن البقاء العسكري هو لمحاربة الإرهاب وتنظيم «القاعدة».
في كتابه الذي صدر أخيراً، والذي لا يزال يثير جدلاً واسعاً في مختلف الأوساط الأميركية قال«غرينسبرغ» بالحرف الواحد: إن حرب العراق في مجملها هي من أجل النفط. «آلان غرينسبان»، الذي ولد في 6 فبراير 1926 في ضواحي نيويورك، وبدأ حياته موسيقياً فاشلاً، ثم انتقل إلى الدراسات العليا، ونال شهاداته التي أوصلته إلى رئاسة مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) ثم أعيد انتخابه خمس مرات، إلى حين تخليه عن هذا المركز المالي المهم في 24 أكتوبر 2005 بناءً على رغبة بوش، اشتهر بتفكيره الليبرالي، بالرغم من ميله إلى نظريات المحافظين الجدد، منذ ولادتها في التسعينيات، وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ونظراً إلى تاريخه الذي يخلو من أي شوائب أو «فضائح»، كانت لآرائه التي ضمنها كتابه الأخير المصداقية المطلقة لاسيما في صفوف الحزب الجمهوري. ولهذا اعتبر المحللون أن الحكم الذي أصدره عن مسببات غزو العراق جاء بمنزلة رصاصة الرحمة لادعاءات الإدارة الأميركية التي تقول عكس ذلك.
ما ذكره «غرينسبان» باختصار، إذا ما أضيف إلى أقوال وتصريحات شخصيات أميركية مشهود لها بالنزاهة والموضوعية، من شأنه أن ينزع «ورقة التين» الأخيرة التي تتستر بها الإدارة الأميركية، لاسيما بعد أن تسلطت الأضواء أخيراً على الشعار الذي رفعه معارضو الحرب «الدم مقابل النفط»، وأخذت تظهر فصول الخطة الأميركية للسيطرة على نفط العراق كخطوة أولى لإحكام السيطرة على النفط العربي.
المخابرات والنفط
«بول أونيل» الذي شغل منصب وزير الخزانة من عام 2001 إلى عام 2003، أي منذ لحظة دخول بوش إلى البيت الأبيض، ذكر في كتابه «ثمن الوفاء» أن البند الأول في جدول أعمال الاجتماع الأول الذي عقده بوش لمجلس الأمن القومي، إثر انتخابه رئيساً، كان موضوع النفط العراقي وخطة السيطرة عليه. هذا الاجتماع حصل في 30 يناير 2001، أي قبل سبعة أشهر تقريباً من وقوع كارثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
في هذا الاجتماع، اتُخذ قرار بملاحقة صدام حسين تمهيداً لاختيار اللحظة المناسبة لتصفية نظامه، وفي المحضر الرسمي للاجتماع سُجّل قول رامسفيلد، وزير الدفاع آنذاك: تصوروا كيف ستكون حالة المنطقة من دون صدام ومع وجود نظام بديل مؤيد للولايات المتحدة ولمصالحها. كل شيء سوف يتغير في المنطقة، وربما إلى أبعد من المنطقة. إن ذلك سيثبت للمرة النهائية والأخيرة فاعلية وقدرة السياسة الأميركية في العالم كله.
بعد اتخاذ قرار ملاحقة صدام لاصطياده بدأ العمل بترولياً لوضع خطة السيطرة على النفط العراقي، وكان المطلوب السرعة في إعداد الخطط لوضعها موضع التنفيذ عندما تقرر الإدارة ساعة الصفر. وجاءت كارثة تدمير مركز التجارة فكانت بمنزلة «ضربة حظ» غير متوقعة استغلتها الإدارة إلى حدودها القصوى.
جهاز مخابرات وزارة الدفاع الأميركية (D.I.A) كُلف وضع خرائط تفصيلية عن آبار النفط العراقية العاملة من الشمال إلى الجنوب. وأيضاً خرائط للآبار التي اكتشفت ولم تعلن بعد، لاسيما الموجودة في الصحراء الغربية (الأنبار). وقد توصلت الـ«D.I.A» في تقاريرها الأولية بعد المسح الشامل للثروة النفطية العراقية إلى التأكيد بأن العراق يصل إلى المرتبة الثالثة في مخزون الاحتياطات النفطية في العالم بعد روسيا والمملكة العربية السعودية. هذه التقارير أسالت لعاب بوش وإدارته أكثر من ذي قبل مما دفعه إلى اتخاذ القرار بوجوب السيطرة الكاملة على هذه الثروة بأي ثمن، وبأي أسلوب. كل ذلك حصل قبل تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك، وعند وقوع الكارثة، كانت الخطط العسكرية والفنية واللوجيستية قد وضعت على الورق لضمان عدم خروج هذه الثروة من يد الولايات المتحدة.
«صاحب مبدأ»
حسب المعلومات القليلة المتسربة إلى أجهزة الإعلام الأميركية، فإن وضع اليد على النفط العراقي ليس آخر المجال، بل يُعتبر الخطوة الأولى في مشروع ضخم ينتهي بالسيطرة على نفط المنطقة العربية، وأيضاً النفط المكتشف في بحر قزوين، بالإضافة طبعاً إلى النفط الإيراني. إن الرئيس بوش، منذ بداية عهده، قرر أن يتوّج الولايات المتحدة ملكة النفط الوحيدة في العالم، كخطوة ضرورية للسيطرة على الاقتصاد العالمي. والخطوة الأولى هي العراق، فإذا نجحت بات الطريق أمام تحقيق هذا الحلم مفتوحاً بكل أبوابه.
وفي سبيل نجاح الخطوة الأولى وضعت الـ«D.I.A» تقريراً ضمنته أسماء ثلاثين شركة عالمية نفطية من بينها شركات فرنسية وألمانية وروسية وإنكليزية لمنحها حصصاً صغيرة في التعامل النفطي في العراق، لاسيما في حقل تصليح وتحسين وسائل استخراج النفط من الآبار القديمة والمكتشفة حديثاً، وأعطيت هذه الشركات علامة «أربعة نجوم» بينما مُنحت الشركات الأميركية علامة «خمسة نجوم» مما يعني أن الشركات غير الأميركية لن يسمح لها بالعمل إلا تحت سيطرة كاملة للشركات الأميركية. وكان الهدف الأولي كما وضحه تقرير من مخابرات وزارة الدفاع هو الوصول إلى إنتاج 6 ملايين برميل عراقي يومياً بحلول عام 2010. لكن الرغبة شيء والواقع شيء آخر، ففي نهاية 2006 كان العراق ينتج ما بين 30 و40 في المئة من قدرته قبل الغزو التي كانت لا تزيد على ثلاثة ملايين برميل يومياً في أحسن الحالات. هذا الأمر سبب انتكاسة كبيرة للخطة الأميركية، ولم تنجح الجهود التي كلفت المليارات في الوصول إلى مستوى إنتاج ما قبل الغزو، مما دفع الإدارة الأميركية إلى صرف النظر موقتاً عن «حلم» إنتاج الستة ملايين برميل يومياً. لكن الإدارة لم تتخل عن طموحات أخرى كثيرة لعل أهمها وأخطرها على الإطلاق تلك التي تتعلق بالسعي إلى إلغاء منظمة «أوبك» التي تضم الدول المصدرة للنفط أو التقليل من تأثيرها في عملية رفع الأسعار أو خفضها. هذه الخطة مازال العمل بها جارياً ولم تفقد الإدارة الأميركية الأمل في نجاحها إلى الآن. وتعتمد هذه الخطة على سلسلة خطوات تبدأ من الشمال العراقي (الأكراد) وتنتهي باتباع سياسة جديدة هي سياسة «المشاركة في الأرباح» التي يقول عنها خبراء النفط العرب والعالميون إنها أسلوب جديد في الانتقام من سياسة التأميم التي بدأت وتوسعت بين السبعينيات والثمانينيات، والتي أعطت الدول المنتجة كامل حقوقها في السيطرة على نفطها. والخطوة الأولى في التنفيذ تبدأ بفتح باب صغير في كردستان العراق، وفي حال النجاح يطبق على العراق بأكمله، ثم يتحول إلى مبدأ يطبق على كل دولة تملك في باطن أرضها برميلاً من الذهب الأسود. وهناك من يقول إن الرئيس بوش يرغب في أن يدخل التاريخ الأميركي كـ«صاحب مبدأ» شبيه بمبدأ ايزنهاور في الخمسينيات وهو «مبدأ إعادة السيطرة على النفط العالمي».
* * * * * *
كما ذكرت، فإن كردستان العراق هي الخطوة الأولى في الرحلة الطويلة نحو السيطرة على النفط، فقد ذكرت الأنباء أن حكومة كردستان وقعت اتفاقاً منفصلاً عن حكومة بغداد مع شركة أميركية تكساسية هي «شركة هانت للنفط» ورئيس مجلس إدارتها «راي.د.هانت» الذي عينه بوش رئيساً للجنة استشارية للمخابرات عام 2001 تابعة مباشرة للرئيس الأميركي، ثم أعيد تعيينه في المنصب نفسه عام 2006. و«راي» هو أحد أفراد عائلة «هانت» المعروفة في الوسط النفطي الأميركي، وهناك «نكتة» ظهرت في بداية التسعينيات في الوسطين المالي والنفطي في أميركا. تقول النكتة: إذا أردت أن تكون من أصحاب الملايين، فافعل كما فعلت عائلة «هانت»؛ لقد بدأت حياتها كأصحاب مليارات ثم تحولت إلى أصحاب ملايين، سبب النكتة أن هذه العائلة أصيبت في التسعينيات بكارثة مالية سببها انخفاض الأسهم في بورصة الفضة، وكانت النتيجة أنها خسرت نحو خمسة مليارات دولار بين ليلة وضحاها. والشيء بالشيء يذكر. هناك بعض رجال الأعمال العرب الذين وقعوا في مصيدة الفضة نفسها، وكانت خسارتهم شبيهة بخسائر آل «هانت».
* كاتب لبناني